لم يُحكم العراق منذ “اعلان استقلاله”، إثر انتصار “الحلفاء” في الحرب العالمية الثانية، بطريقة سوية: في البداية، واعتراضاً على الاحتلال البريطاني، انتفض العراقيون، طلباً للاستقلال، في “ثورة العشرين” المجيدة.
ولقد بادرت سلطات الاحتلال إلى “استيراد” ملك هاشمي، هو فيصل الاول، ابن الشريف حسين، الذي كان الاحتلال الفرنسي قد اسقطه عن “عرش سوريا”، وطارده حتى حدود الكيان المستحدث، امارة شرقي الاردن، والتي منحت لشقيقه الامير عبد الله بن الحسين..
ولان “الشرفاء” لا هوية مذهبية لهم، فقد ارتضى العراقيون هذا الملك الهاشمي، وسلموا بالمملكة الوليدة كصيغة مقبولة من الشيعة والسنة تحت الرعاية البريطانية. ولسوف يموت فيصل الاول ملكا، ليخلفه ابنه غازي ملكاً يهوى سباق السيارات، حتى اذا قتل نتيجة قيادته الاسرع من الصوت، نودي بابنه فيصل الثاني ملكاً.. ولأنه كان قاصراً ودون سن الملك، فقد عين خاله الامير عبد الاله وصياً على العرش.
بعد ثورة العشرين، وكنتيجة لها، استنكف “الشيعة” عن الدخول إلى السلطة، فاعتمد البريطانيون والحكم الملكي على “السنة” الذين تناوبوا على الحكومات والمناصب القيادية، عسكرية ومدنية.. وظل هذا الحكم المختل في توازنه قائماً بعد ثورة 14 تموز المجيدة التي ضيعتها السياسة قصيرة النظر، والذي دغدغته النرجسية في شخص عبد الكريم قاسم، وقصر النظر عند الشيوعيين الذين كانوا يمثلون قوة شعبية وانما من دون مشروع قابل للحياة.
في 8 شباط 1963، نظم البعثيون مع بعض ضباط الجيش، وعبر الاستعانة بعبد السلام عارف، شريك عبد الكريم قاسم في ثورة 14 تموز 1958، انقلاباً عسكريا، عادوا به إلى السلطة كشركاء للعسكريين.. وبعد وفاة عبد السلام عارف في حادث سقوط طائرته الخاصة، جيء بشقيقه عبد الرحمن عارف رئيساً.. واستمر الحكم “قلقا” حتى “ثورة” 17 تموز 1968 حين تقدم حزب البعث بقيادة احمد حسن البكر والشخصية القوية لصدام حسين إلى السلطة، مستعيناً ببعض كبار الضباط في الجيش الذين لن يتأخرا كثيراً في تصفيتهم والانفراد بالسلطة التي امتلك مفاتيحها صدام حسين، مبقياً على “خاله” احمد حسن البكر رئيساً، مكتفياً بلقب “السيد النائب” الذي له حق الامرة على الحزب والشعب والجيش والمخابرات ومختلف مواقع السلطة.
ولقد حكم صدام حسين، بالحديد والنار، العراق حتى العام 2003.. وشهد “عهده” حروباً ومغامرات عسكرية عديدة اولها الحرب على ايران بعد تفجر الثورة فيها بقيادة الامام روح الله الموسوي الخميني.. وهي حرب استمرت سبع سنوات عجاف، وانتهت “باستسلام” إيران حتى لا تخسر دورها الاقليمي. وبعد ذلك، أقدم صدام حسين على غزو الكويت في 2 اب 1990، وكانت تلك “الخطيئة الاصلية” التي سيدفع ثمنها العراق احتلالاً اميركيا عبر حرب “دولية” شاركت فيها بعض الجيوش العربية، ولو رمزياً، فاتحة فيها ابواب المنطقة امام الاميركيين على مصراعيها.
في ربيع العام 2003 أقدم الاميركيون على احتلال العراق كله، وأسقطوا النظام فيه، ولكي يعمقوا الفتنة فقد سلموا صدام حسين إلى غلاة الشيعة، فأعدموه شنقاً في 30 كانون الاول 2006 (فجر يوم عيد الاضحى) بينما هو يلقي “خطاباً قومياً عربياً” بامتياز، معمقاً لجذور الفتنة، مظهراً نفسه كبطل قومي ذهب ضحية “عروبته”.
…ولقد تم تسليم الحكم إلى بعض غلاة الشيعة الذين لا تاريخ سياسيا لهم، ولا دور لهم في النضال ضد الاجنبي او ضد الدكتاتورية، بل كانوا يعيشون ـ بغالبتهم ـ في دمشق، كلاجئين سياسيين، او في المنافي البعيدة، وحين عادوا كانوا “اغراباً” متلهفين إلى السلطة والثروة، فنهبوا من خيرات العراق ما لا حصر له من اسباب الثروة، بينما العراقيون يغرقون في هوة الفقر، وان كانوا قد نجحوا في تجنب الفتنة، برغم المحاولات النشطة لإثارتها، والتي شارك في اثارتها العديد من المسؤولين العرب، فضلاً عن الاميركيين والبريطانيين والفرنسيين و…”داعش” التي ساهم الجميع في فبركتها وتعظيم قوتها حتى غدت اسطورية!
في هذه الاثناء كان الكرد بقيادة مسعود البرازاني يحاولون الافادة من حالة الضعف وافتقاد القرار الوطني الجامع في بغداد، “لتطوير” الحكم الذاتي في كردستان العراق، في اتجاه اقامة “دولة مستقلة”، بتحريض تركي لإيهام الاكراد في تركيا أن “دولتهم” تساعدهم في أي مكان خارج تركيا، اما في تركيا فتقاتلهم حتى الموت!
بالمقابل، فان بعض “اعيان الشيعة” الذين حكموا العراق تحت رعاية الاميركيين فاثروا ثراء فاحشاً، كانوا يحاولون العودة إلى السلطة مجدداً، فاتحين الباب امام التدخلات الخارجية، العربية منها (السعودية خاصة) والاميركية ومعها فرنسا وبريطانيا وقوى التدخل الاخرى..
واذ يبرز اليوم، في العراق بعض القيادات ذات الشعبية الواضحة كرجل الدين الشيعي السيد مقتدى الصدر، فان المناورات والضغوط الخارجية تحاول اثارة الجماهير التي تعاني الفقر وشح المياه، وهي التي تقم عند ملتقى النهرين (دجلة والفرات) بعدما تحكمت تركيا في مسيل مياههما إلى العراق (وسوريا)، فضلاً عن الاهمال التاريخي الذي عانت منه منذ قيام الدولة في العراق.
وهكذا تتفاقم المشكلات في ارض الرافدين وتتداخل فيها ازمة الحكم والحساسيات الطائفية والمذهبية، والظلامة التاريخية التي تركت آثارها على السلوك العراقي غناء وملابس وتقاليد كربلائية تجعل الفرح ـ إذا ما جاء ـ مدوياً.
ويبقى الامل، دائماً، في أن ينتبه شعب العراق إلى ما يُدبر له الآن، بعد كل ما عاناه في ماضيه القريب، فيمسك بمقاديره بيديه، ويستعيد مكانته المميزة في محيطه العربي والعالم.
فلنأمل خيراً..
تنشر بالتزامن مع السفير العربي