طلال سلمان

عن الصداقة المتعبة مع القلق: هشام شرابي

تحية إلى هشام شرابي في ذكرى وفاته

لم تمتلئ قاعة الصمت بالمعزين، برغم ان كثيرين جاؤوا من خارج الصداقة ومن داخل الافادة من الحضور في الظهور بمظهر »اصدقاء المفكرين«… من ضنّ عليه القدر بنعمة التفكير يمكنه ان »يستعيرها« من صورته وهو مطرق في حضرة الحزن على المفكر الذي رحل ليكمل كتاب حياته ذات البعدين.
… كان هشام شرابي يتأمل الوافدين وتشع عيناه بابتسامة غامضة هي مزيج من السخرية والابتهاج بالغياب.
***
قد يخفف عنك في لحظة الفقد شعورك بأنك لست في الحزن وحدك، وان الاحساس بالخسارة يتجاوز الاصدقاء والمعارف ليشمل العديد من الناس الذين لا تعرفهم، بمعزل عن تفاوت معرفتهم الشخصية بالفقيد الذي متى كان في منزله هشام شرابي يغدو »ملكية عامة« لانه بعض الوجدان العام.
مع ذلك توهمت انني اسمع هشام شرابي يشهق متعجبا وهو يسمع شهادات تقال عنه وفيه لذويه من »الغرباء« فتمتدح فيه صفات كان يعرف انها ليست فيه، وان قائليها طالما رددوها في التعزية بكبار يعجزون عن الوصول اليهم فيعوضون بالكلمات التي قد تملأ فراغ الوقت ولكنها لا تقارب معنى الفقد او موقع الفقيد الذي خلا وسيبقى خاليا لوقت يطول.
***
لم يكن لهشام شرابي الكثير من الاصدقاء.
صداقة مثل هشام متعبة جدا. كيف تصادق القلق؟
ثم انها لا تنشأ فجأة، بمصادفة قدرية، او بلقاء حول فكرة. ذلك انه دائم التشكل بما قد يعتبره الغير في حكم اليقين. ثم انه كثيرا ما ظل يحاور يقينه حتى ينقضه.
ان صداقته مثل بذرة في الارض تحتاج الى مطر ورعاية وزمن ونقاش قد يحتدم حينا الى حدود الصدام، وقد يرق احيانا الى حدود الحوار، لكن علامة الاستفهام تظل قائمة تطرد نومه وتشغله بقلق السؤال: هل نحن متفقان فعلا؟ لكأنه يتأمل الكلمة وهو ينطقها بعناية، قبل ان ينزلها في موقعها من الجملة التي يعرف سلفا انها ستنوء بحمل اثقال تشكُّكه في انه قد بلغ حدود اليقين.
ففي هشام شرابي حذر العالم، حتى وان كان »العقائدي« الذي كان في شبابه ما يزال يحيا فيه ويطل احيانا متدخلا في تصحيح انزلاقات التأثر بالمجتمع الآخر الذي عاش فيه نصف عمره ونصف رأيه ونصف فكره.
الفلسطيني الذي صيره لبنان قوميا سوريا في الجامعة الاميركية واعادته دراساته ثم قراءاته ومن بعد تجاربه الحياتية في الولايات المتحدة الاميركية، الى »عروبة ملتبسة« تتصارع فيها الذكريات والاحلام، الخيبات ومرارات المقارنة، الفخر بالذات والتواضع امام تقدم الآخر، الانبهار بحركة التقدم المادي في ظل القحط الفكري بينما المجتمعات الغنية بالعقائد والافكار والاساطير ودروس التجارب العظيمة تتنافس على احتلال المراتب الاولى في التخلف.
***
لم يكن هشام شرابي في صراع مع مرضه العضال فحسب، في سنواته الاخيرة… كان في صراع مع مكونات تفكيره ومكتسبات ثقافته، وحيرته امام هذا القدر العظيم من الالتباسات التي استولدها الصراع مع الصهيونية، فكريا وسياسيا، وبالاساس حضاريا، والتي كشفت هزال الحاضر وفداحة الخطر على المستقبل من الماضي الذي لا يسقط من الذاكرة حتى والسيف يسقط من اليد، او واليد تعجز عن حمل العبء الثقيل للمواجهة.
لقد تشظى هشام شرابي بين حلم الثورة المستحيلة وحكم العقل البارد، فهو حين ناقش الثورة بالعقل وجدها مستحيلة، وحين عاد فوقف فوق الارض اكتشف انها اعظم تأثيرا من العقل، وان معادلة الجمع بين الارض والعقل مستحيلة، حتى اشعار آخر.
***
في احتفال حميم قبل سنة، وجه هشام شرابي الدعوة الى اصدقاء معدودين، فيهم خليط من الفلسطينيين المتلبننين، واللبنانيين المتسورنين، والسوريين المتفرنسين، والاميركيين المستعربين، وبعض الغجر والقبائل الرحّل.
كان الجمع المتحلق من حول الرجل قصير القامة، طويل مدى الرؤيا، المتوقدة عيناه بحب الحياة، مختلف المنابت الفكرية لكنه موحد في حيرته امام الغد.
وحين هم ادونيس بان يقرأ قصيدة من شعره القديم احتاج الى نظارتيه، واحتاج كثير من الحضور الى نفض الغبار عن ذكريات حميمة استقرت في وجدان النسيان… وبدا الكلام آتيا من اعماق زمن آخر، حتى ان سامعيه صفقوا له طربا بموسيقاه اكثر منهم اعجابا بمضامينه التي غادرها الشاعر وباتت عودته اليها مستحيلة.
هشام شرابي الذي رحل ذاهبا الى المستقبل ترك لنا حيرته وحبه للحياة في فلسطين التي بات على كل منا ان يعيد بناءها في وجدانه، طالما استحالت العودة اليها او استعادتها في مدى عمر واحد.
ومع حيرة هشام شرابي سنتابع احتفالنا بالحياة…

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 28 كانون الثاني 2005

Exit mobile version