طلال سلمان

عن »الزميل« عبد الرحمن الكواكبي وصحافته والمطبعة..

أفرحني »الاكتشاف« الذي حققه الزميل جان داية في كتابه »صحافة الكواكبي«… فقد كنت مثله أبحث عن »السيرة المهنية« لهذا الرائد من رواد النهضة العربية الذي قرأناه كاتباً ثورياً جليلاً في »طبائع الاستبداد« و»أم القرى«، ثم لم يتيسر لنا الاطلاع على نتاجه الصحافي في مسقط رأسه حلب إلا كنبذ منقولة عن الصحيفتين اللتين أصدرهما فيها، لبعض الوقت، وهما »الشهباء« 16 عدداً!! و»الاعتدال« 10 أعداد!
وأفرحني أن جان داية كرّس كتابه لعبد الرحمن الكواكبي الصحافي، فقدمه عبر بحث مضنٍ طاول عواصم غربية كثيرة، قبل أن يعثر على نسخ نادرة من مطبوعتيه، وقدم عبر تحليل السيرة الذاتية والنص صورة دقيقة لحال الأمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، مستذكراً بطبيعة الحال السابقين والمعاصرين للكواكبي وبينهم:
»حديقة الأخبار« لخليل الخوري، وهي باكورة جرائد الولاية السورية.
»الجنان« و»الجنة« و»الجنينة« للمعلم بطرس البستاني، وهي أول وأفعل مجلة فكرية أدبية في العالم العربي، وواضح أن السلطة كانت تعطل المطبوعة فيعيد المعلم إصدارها باسم مشابه باللفظ أو بالمعنى،
»الجامعة« لفرح أنطون.
»التقدم« و»مصر« لأديب إسحق، وكان يحررهما من الغلاف إلى الغلاف.
هذا إضافة إلى مَن كانوا هربوا بأفكارهم الثورية إلى خارج السلطنة، وأبرزهم شبلي شميل وخليل سعادة في (باريس).
»الشهباء« التي أصدرها الكواكبي، بداية، وبعدما ترك وظيفته كمحرر في »فرات« وهي الجريدة الرسمية في حلب، كانت آسيوية »تصدر في يوم الخميس من كل أسبوع وتحتوي على جميع أنواع الحوادث. ثمن العدد الواحد منها غرش وبدل الاشتراك في حلب وجوارها مجيديتان ونصف«.
ولأن الكواكبي كان صحافياً ملتزماً، بلغة هذه الأيام، فقد خلت أعداد الجريدة الستة عشر من الإعلانات… وكان »المكتوبجي«، وهو الرقيب، يحذف ما عنّ له أن يحذفه، بما في ذلك خبر اغتيال الرئيس الفرنسي المسيو كارنو، في ليون، بخنجر كازاريو الشقي، وجعله خبر وفاة عادياً يبدأ بعبارة »انتقل إلى رحمة ربه«…
ولأن »الشهباء« كانت ملتزمة فقد عطّلت ثلاث مرات خلال عمرها القصير (حوالى خمسة أشهر) ثم عطلت نهائياً، فأصدر هذا المناضل العنيد جريدته الثانية »اعتدال«، قبل أن يترك حلب إلى القاهرة حيث كانت الصحافة تتمتع بهامش »إنكليزي« أوسع من الهامش »العثماني« في »الولاية السورية«.
من باب التعريف بالكتاب الجديد، أي بالجهد الممتاز لجان داية، سأكتفي هنا بإيراد مقتطفات من بعض مقالات الكواكبي الصحافي، التي تكاد تطابق واقع الحال الآن، في أي قطر عربي، فتشهد »لزميلنا« الكبير بالريادة في طلب التغيير والاصلاح ولو بالثورة:
في افتتاحية العدد الأول من جريدة »الشهباء« كتب الكواكبي*:
»ان الجمهور قد أصبح ينادي بصوت عال متضجراً من اختلال الإدارة مترقباً بفروغ صبر الإصلاحات الموعود بها، مؤملاً إدراك غاية قريبة للتخلص من ضيم استيلاء الفساد على سياسة المملكة..«.
ولأن »رأس الفساد هو رأس السلطة« فقد ذهب الكواكبي إلى الموضوع مباشرة: »… فإنهم، أي السلاطين كانوا بحسب عوائد العائلات الملكية الشرقية يتجنّبون مخالطة الناس كل التجنّب. فكان واحدهم يرتقي عرش السلطنة، وهو غير مترشح لها كترشيح أبناء ملوك الغرب«.
»… وفي جملة ما ساهم في فساد حكم السلطنة الشغف بالتفاخر بالتجملات الظاهرية التي لا حدّ لغايتها، وإنما صاحبها يجتهد في الازدياد منها بكل ما يمكنه صرفه عليها من المال..«.
وفي مجال الإشارة إلى اضطهاد العنصر العربي وحرمانه من المشاركة في السلطنة داخل السلطنة وتسفيه الحجج التي كانت تبذل في هذا السياق، كتب الكواكبي:
».. ولا يمكن أن يقال إنه منذ ثلاثمائة سنة إلى الآن لم يوجد من العرب مَن فيه كفاءة لمنصب عال من الوزارات..«.
وقد عاد إلى هذا الموضوع أكثر من مرة، وبين أفضل ما كتبه:
»لو أن العرب الإسلام الذين دخلوا هذه البلاد وفتحوا أكثرها بسبب جاذبية العدالة ومكارم وشيم لم تفسد أخلاق أخلافهم من حيث تشويش وجه حقيقة التصلب في الدين لعاهة تشديد التعصب له، لما صادفت بلادنا شرور تلك الحروب الصليبية التي لا زلنا نشاهد آثار أضرارها سياسياً وأدبياً«.
كذلك كتب توصيفاً بل تشريحاً للسلطنة ليخلص إلى فضح الاضطهاد، فقال:
»لا يخفى أن المملكة العثمانية مملكة عظيمة مشتركة في القارات الثلاث، مركبة من أكثر من 30 مملكة قديمة، ولذلك وحدت الهيئة العثمانية لفيفاً مجموعاً من نحو 12 جنسية لكل منها لغة مستقلة وعوائد مخصوصة، وهم يفترقون أيضا من حيث العقائد إلى 18 ديانة، وترجع إلى أربع أقسام كبرى، ومن حيث السياسة ينقسمون إلى حزبين متناظرين أكبر وهم الإسلام وتابعيهم وكبير وهم المسيحيين وتابعيهم«.
»وملاحظة هذه الأسباب المؤدية بالطبع إلى الاختلاف في الطباع والمشارب والتباين في الأغراض والصوالح بين أصناف الهيئة..«.
وفي »أم القرى« عاد يؤكد على حقيقة التمييز الفاحش بين أجناس الرعية في الغرم والغنم »كهضم حقوق العرب في المناصب والارتزاق من بيت المال، حيث لا نسبة لهم فيه، لأنها مميزة عليهم حال كونها ثلثي رعيتها، ولو من الجركس والبشناق وأكراد والأرناؤوط والروم والأرمن والخُرْوات والبلغار والعربكير.«.
وللثورة سبب إضافي، فالعرب »لغتهم أغنى لغة المسلمين في المعارف، وهي مصونة في القرآن الكريم«.
ومن بين اللطائف التي تضمنتها إحدى افتتاحيات »الشهباء« فقد اخترنا رواية كاملة قدمها الكواكبي لرحلة المطبعة من المنشأ الألماني إلى بلادنا وما تعرض لها مخترعوها ومستخدموها من عنت وعذاب، كتب يقول:
»… فقد ذكر التاريخ ان كتمبرك (غوتنبرغ) الألماني، مخترع صنعة الطباعة التي هي أجلّ وأنفع الاختراعات البشرية قد لقي من الشدائد والمقاومات ضد إشهار صنعته ما ألجأه لأن يهاجر بها من ستراسبورغ مسقط رأسه إلى مايانس. ثم أن تلميذه فوست المكمل لهذه الصنعة اضطر أخيراً لأن يهاجر إلى باريس مع رفيقه بتروس شوفر، فدخلا بها إلى فرنسا سنة 1466 وأشهرا صنعتهما فيها، فقاومتهم جماعة من النساخين واتهموهم بأنهم سحرة، وأن مدادهم مركب من دم الإنسان فقبضت عليهم الحكومة وألقتهم في السجن. ومات فوست المذكور فانتقل رفيقه إلى إيطاليا. وفي مدة قليلة أشهر صنعته فيها. ثم بطلب من لويس الحادي عشر ملك فرانسا عاد معه ثلاث صنّاع، وبعد أن باشروا العمل بأيام قاومهم الخطاطون ثانياً فحكم عليهم مجلس نواب الأمة بمصادرة أموالهم وأدواتهم ونفيهم من فرانسا. غير أن الملك المذكور أدخلهم في حمايته ومنحهم امتيازات ومساعدات مكّنتهم من الثبات. وفي مدة هذا الملك أخذت تنتشر المطابع في أوروبا، على أنها أينما دخلت لا بد وأن تصادف شيئاً من الصعوبات في أوائل أمرها. حتى أنه في سنة 1471 منعت حكومة إنكلترا رجلاً دخل بها إلى مملكتهم ونفته. لكن رغماً عن هذه الصعوبات التي قهرتها همة الرجال لم تلبث أن شاعت وانتشرت في سائر أكناف أوروبا. وفي سنة 1726 (1129 هجرية) نقلت إلى اللغة العربية بهمة سعيد باشا على يد انكروس إبراهيم آغا المجري. ذلك أن المشار إليه كان صحب والده جلبي محمد أفندي في سفارته لدى فرانسا فشاهدها هناك وحركته الغيرة على إدخالها في قومه، فلما عاد إلى الأستانة أخذ يسعى في استحصال الرخصة من الحكومة، فبإلحاحه وإصراره ومساعدة الصدر الأعظم له استحصل على فتوى شريفة وفرمان عالي من السلطان محمود خان الأول ولكنه لم يتمكن في ظرف 20 سنة سوى من طبع ثلاث كتب صغيرة ورسالتين ثم بموته أهمل أمرها نحو أربعين سنة. وعلى رأس سنة 1200 هجرية اهتم بشأنها واصف أفندي المؤرخ المشهور ورئيس الكتّاب راشد أفندي وابتاعاها من التركة، وكانا سبباً لإحياء هذه الصناعة وتقدمها. ويروى عنهما تحمل مشقات كثيرة، ودخلت البلاد المصرية أياماً قليلة مع نابليون الأول ثم المرحوم محمد علي باشا، استحدث لها شكلاً آخر جاءت حروفه أجمل من الحروف الإسلامبولية. وهكذا تحسنت الطباعة العربية وتعددت أنواعها واتسعت دائرتها لكن مقرونة بالصعوبات في أوائل دخولها في كل الجهات. حتى على ما يعهد أن دخولها إلى بيروت بواسطة الرسل الأميركانيين ثم اليسوعيين لم يكن خالياً من ذلك ودخولها إلى كسروان لم ينجح أمره حتى الآن. ومن هذا الباب ما صادفناه نحن في إدخالها إلى ديارنا الحلبية بصفة مطبعة وطنية. على أن معظم صعوباتنا كانت في أمر نشر الجورنال..«.
* أبقينا الشواهد المستلة من نص الكواكبي على لغتها في الاصل

 

ليل العطش الطويل

غنّى الشاعر فقامت ترافق غناءه برقصها،
قال الشاعر كلاماً جميلاً في المرأة، فقررت أنه فيها ولها، وانطلقت تحاول تجسيد المعاني مباشرة،
ذكر الشاعر الشَعْر فأفردت شَعرَها ولوّحت به حتى انداح خيمة ظليلة ومعطرة في أفق الغرفة المزدحمة بالرغبات ونعاس الضجرين من أعمارهم،
نزل الشاعر إلى العنق فمطّت عنقها حتى لفحت أنفاسها كل الساهرين،
عاد الشاعر صعوداً إلى الجبين فأشرأبّت ساحبة العيون إلى جبينها الذي تحول الى مرآة تعكس تشوّقهم إلى أن يسمعوا أكثر ويروا أكثر،
وعندما جاء الدور على العينين غار الشِعر فيهما فتضمخ بسوادهما ثم استعيد وقد ترطّبت كلماته بدمع النشوة،
شطرت الأهداب القصيدة فعلق بعضها على الرموش وتكحّل،
أما حين بلغ الشفتين فقد ثمل الجمهور وتلمّظ بعضه وهزّت أكثر من سيدة زوجها لتستعيده من خيالاته الماجنة،
حام الشاعر حول الصدر طويلاً، وارتطمت الموسيقى بالناهدين فانكسرت، وداخلت البحة صوت المغني في حين سعل معظم الحضور.. تحسراً أو لمزيد من التركيز على المبنى الذي يحوم من حوله المعنى ويقصر عنه،
أكمل الشاعر قصيدته كيفما اتفق، واستمرت ترقص كيفما أرادت حتى اغتسلت بصبابتها والتمني.
في الصمت الذي أعقب الغناء، دار الشاعر يبحث عنها فما وجدها. قال في نفسه: لا تريد مني إلا صورتها في شعري. إنما تطلب كلماتي وصوتي للمرأة فيها.
انصرف الشاعر كَسِيف البال، ولمحها عند الباب وقد أغرقت وجهها في سماعة الهاتف، لكنه تبيّن شيئاً من حدّة العتاب في نبرة صوتها الذي بالكاد سمعه.
عادت المرأة الى مقعدها وسألت عنه فقالوا: لقد انصرف، وهو يهديك سلامه.
قالت المرأة لنفسها: ترك لي كلماته وكنت أطلب الرجل فيه، فماذا تنفعني الكلمات، ثم أن شعره ركيك. لقد تبادلنا الأوهام، وصَّف وما ذاق، وانتشيت وما ارتويت. يا ليل العطش الطويل.

 

تهويمات

} ألم ينقض زمن العتاب بعد؟!
يحفر الصمت جرحاً عميقاً في القلب ويستنزف الروح.
الصمت يلد الكراهية.
ليت صمتك يكون عقيماً. ليت حبك يعود فينطق.
} صمتان لا يلدان الحب… أما الثرثرة فتنعشه وتحميه من الذبول.
} قال يهنئ زوجها: مبروك، لقد دخلت عاصمتنا!
} ليس له إلا قلب واحد، ويزعم أن ازدحام النساء عليه لا يملأه، وهو يبحث بعد عمن يشغله.
} قالت: في الزحام يرفعني حبك فوق الحضور جميعاً، وينصبني ملكة على كل النساء، فلماذا بعد انفضاض الجمع ينضب الحب وتضربني بلغة من خشب؟!
} ابتعد عنك فتمتد معي، فإذا أنت في البُعد أوضح صورة وأضفى صوتاً،
لكأنك تحرضني أن أذهب إلى أقصى الأرض لكي أكتمل بحبك. أتريدني أن أصدق أن القرب يقتل الحب.
} كتبت إليه معتذرة: قررت أن حبك أقوى مني فهربت. أحب أن أكون الأقوى حتى من حبي.
ورد عليها: هنيئاً لي.
} قالت: ألم يأخذك البُعد؟!
قال: لو أنه أخذني لما سألتِ.
} قالت: تحدثني وكأنني »كلهن« وأبحث عنك فلا أجدك أبداً وحدك… ألا تخرج مرة من هذه التظاهرة إلى.. الحب؟!
اكتشفت أن لليد ذاكرة كالعين فقد قرأت اسمك على ورق ضمة »الرغب« التي تركتها على باب النوم.
} لم تستطع يدها أن تطال القمر، لكن النجمات تساقطن في عينيها فولدن الليل والنهار وأعطين القمر وظيفة.
} صغاراً كنا حين اكتشفنا أن الجسد لا عمر له.
وظل هذا اليقين معنا، بعد ما سمعناه من أهل »الثمانين«

 

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أتعرف أن الحب هو مصدر ثقافتي؟! عندما أزهرت دنياي بالحب انتبهت إلى أنني لا أعرف ما يكفي عن الحياة والناس. وخجلت من جهلي، فصرت ألتهم الكتب التهاماً. كنت ممتلئاً بحبيبي، وكنت أريده أن يمتلئ بي، وكنت أريد أن يرتفع بي في عيون الناس، أن أضيف إليه، لا أن أعيش عبئاً عليه، أو أن أضطره إلى النزول. الحب يرفع ولا يخفض.
لو أنصفوا لاعتبروا الحب أعظم مصدر للثقافة. الحب يغني القلب والعين والفكر معاً. يعطيك الحب لتلتقيه بالحبيب.

Exit mobile version