طلال سلمان

عن الديموقراطية والمقاومة

كالعادة، لم تجد »لجنة تفاهم نيسان« ما تفعله غير المساواة بين فعل الاعتداء، وبين رد الفعل الذي يمليه واجب الدفاع عن النفس، أو باختصار: بين الجاني قاتل الأطفال والضحية الذي يؤكد حقه في الحياة فوق أرضه..
كالعادة، إذن، أدانت اللجنة، برئاستها الفرنسية الآن، الطرفين: إسرائيل التي أغارت بطيرانها الحربي على أقصى نقطة في شرق لبنان، على التخم مع سوريا، ولبنان الذي كان لا بد من أن تتولى المقاومة الباسلة الرد وبقوة لتمنع العدو من التمادي في عدوانه، غير المبرر على المدنيين العزل في بيوتهم، طالما ان لا وسيلة أخرى لردعه…
ما علينا… لا جديد في الاعتداء الإسرائيلي ولا في طريقة تصرف لجنة »التفاهم« على ما لا يمكن التفاهم حوله، والإشارة الى هذا الأمر مجرد »مدخل« الى موضوع آخر يفرض نفسه من باب »التداعي« إن لم يكن من باب المقارنة، وحديث الاعتداء على لبنان يجر حديث الاعتداء على العراق، أو على العرب عموما عبر العراق، أساسا، كما عبر هذا البلد الأمين، ولو بالمعنى الرمزي..
بداية نعترف: قد لا يكون لبنان بنظامه كثير العلل والمطاعن، أفضل نموذج للديموقراطية، بما هي حكم الشعب بالشعب.
لكن لبنان، وبكل عيوبه، الظاهرة منها والكامنة، وبهذا القدر المحدود من الديموقراطية، وهذا القدر غير المكتمل من التضامن الوطني، وهذا القدر من الصحة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، استطاع أن يشكل نموذجا يحتذى في مقاومة الاحتلال.
ومن غير ادعاءات، يمكن القول إن لبنان هذا، الصغير حجما والضعيف عسكريا والفقير بثروته المادية، قد استطاع تحويل الاحتلال الى مشكلة للمحتل نفسه تؤثر على مجريات حياته اليومية، وتفرض إيقاعاً مختلفاً على حياته السياسية، بل هي تساعد على خلخلة مؤسساتها القوية والعريقة والتي لعبت دورا أساسيا في إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية.
لقد باتت المقاومة في لبنان عنصر تأثير مباشر، وأحيانا حاسم، على معطيات لعبة الحكم، من الانتخابات إلى الرئاسات الى طريقة تشكيل الحكومات من يدخل الى نعيمها ومن يخرج من جحيمها وانتهاء بالخيارات العسكرية وتحديد هوية شاغلي المواقع القيادية في جيش الهجوم المفتوح على العرب في مختلف أقطارهم.
ويمكن أن نتعرف داخل الكيان الإسرائيلي إلى قوى سياسية جديدة استولدتها الانتفاضة الفلسطينية، وإلى قوى أخرى استولدتها المقاومة الوطنية الإسلامية الباسلة في لبنان، التي هيأت لها ظروف الحماية والاستمرار مظلة الصمود السوري.
طبعا، لقد زادت قوى التطرف داخل إسرائيل تطرفاً، كما تزايدت رموزها وهيئاتها السياسية عددا، نتيجة هذين العاملين الاستثنائيين، معزّزَين دائما بآخر قلاع الصمود العربي، وعنوانه سوريا.
بالمقابل فقد ظهرت الى الوجود هيئات وأحزاب وتيارات »معتدلة« تجهر بحق الفلسطيني في دولة على »بعض« أرضه، وبضرورة الانسحاب من لبنان، وبضرورة قبول شروط السلام العادل والشامل مع سوريا وسائر العرب.
كانت إسرائيل هي المتحكّمة بمجريات الأمور فوق الساحة العربية عموما، وفي لبنان شكلت ولفترة طويلة »قوة تدخل« مباشر في شؤونه الداخلية وصل ذات يوم الى حد »تعيين« رئيس للجمهورية بل رئيسين في أعقاب اجتياحها لبنان صيف العام 1982.
بالمقابل فإن الوضع الداخلي في العراق يقدم النموذج الضد تماما.
إن الحاكم هناك يختصر بشخصه البلاد جميعا، بشعبها والمؤسسات المدنية والعسكرية، ويحصر بين يديه قرار الحرب والسلم: يذهب إلى الحرب متى أراد، ولأسباب لا يعرفها غيره، و»يصالح« متى عجز عن إكمال الحرب، ثم يصوّر الهزيمة نصرا ويحتفل به وسط مقابر ضحايا حروبه التي تكاد لا تنتهي.
وهكذا يتحول الشعب الى قطعان من الضحايا، عليه أن يدفع ويدفع بغير توقف لحماية حاكمه الذي لم يهتم مرة لأمره، ولم »يستأنس« مرة برأيه، في كل الحروب التي خاضها منفردا أو استدرج إليها بلاده أو استدرجها الى بلاده وشعبه.
لو أن في العراق النزر اليسير من الديموقراطية لكان الوضع قد اختلف جذريا، ولاختلفت نتائج الحروب، إذ كانت الديموقراطية ستمنع الحروب الخطأ، وستعزز وضع الحكم في الحرب العادلة، لا سيما حرب حماية البلاد.
والذي شهدناه كان العكس تماما: كانت »الديموقراطية الأميركية« تحاسب رئيس القوة الأعظم في الكون، وتلزمه بأن يذهب إلى المحاكمة صاغرا لأنه كذب في مسألة تتصل بسلوكه الشخصي، بينما الترسانة الأميركية تقاتل فتقتل شعب العراق وتدمر منشآته وبعض رموز حضارته الموروثة!
ولقد كادت الديموقراطية الأميركية، على كل عوراتها، تغطي على العدوان الأميركي على العراق.
بينما كان غياب الديموقراطية عن العراق يسوّق، بهذا القدر من النجاح أو ذاك، للمنطق الأميركي (والعربي؟!) الذي يحاول تبرير العدوان بأنه »حرب على الطاغية« في بغداد.
وليس في هذا المنطق أي تباه لبناني على الأخوة العراقيين، لكن »ديموقراطية الداخل« تعزز الوحدة الوطنية، وتجمع الشعب والحاكم فلا تجعلهما »طرفين« وفي مواجهة مفتوحة.
الديموقراطية ليست فقط العاصم من الحرب الأهلية،
بل هي، عند الضرورة، خط الدفاع الأساسي عن الوطن، لأن الشعب هو المعني بسلامة الوطن، وليس الحاكم منفردا، مهما كانت درجة إخلاصه.
ولبنان، بهذا المعنى، تجربة عربية ناجحة، تنتظر الاكتمال… عربيا.
فالمقاومة هي، غالبا، الوجه الآخر للديموقراطية، أي لوجود الشعب ومشاركته بل تحمّله مسؤولية قرار خطير كالحرب!
طلال سلمان

Exit mobile version