طلال سلمان

عن الخوف والموت والخطر والأمان في غزّة

غزة ـ حلمي موسى

فجأة من دون مقدمات، يزداد أزيز طائرة استكشاف فوق رؤوسنا. يقول صحافي كان يجلس بجواري أن وجود هذه الطائرة يعني أن قصفا قريبا سيلي. قلت له أن طائرات الاستكشاف لا تغادر سماء غزة، وهي تتناوب طوال الوقت. تركني، ربما لإحساس داخله أو لانشغاله، وخلال دقيقة او اثنتين، بدأت الصواريخ تتساقط، فوقفت تاركا الكرسي الذي كنت أجلس عليه، فيما كان الكثيرون يركضون من حولي، بعضهم مغادرا المكان وبعضهم آت الى المكان. وقد أصرّ صديق على دخولي ما يمكن اعتباره خيمة قريبة.

والخيمة كانت بعرض مترين وطول خمسة أمتار تقريبا، منصوبة على رصيف جدار المستشفى الكويتي. وكان جزء من الجدار اسمنتيا فيما القسم العلوي حديديا. و”جدران” الخيمة هي شادر من النايلون أمّا السقف فكان من الصاج او الزينكو.

وطبعا كان في الخيمة عدد من الصحافيين وبعض الأشخاص الآخرين الذين دخلوها للاحتماء بها أو بجدار المستشفى. كان واحدا أو أكثر يحملون كراس ويضعونها فوق رؤوسهم وهم شبه مستلقين على الأرض، وفيما كان آخر يلتصق بجدار المستشفى. وأنا أقف كأنني من عالم آخر اراقب المكان.

وفي الحقيقة، كان أزيز الصواريخ النازلة نحونا، ودوي انفجارها، والإحساس بإنّه إذا أفلتنا من أحدها، يمكن ألا ننجو من غيره، أمر مثير للخوف. ويخلف عدد القذائف انطباعا بأن القصف لن يتوقف، مما يزيد الخوف اشتعالا.

في تلك اللحظات، لا يفكر أي ممن في المكان بأن هدف القصف بعيد عنه. يشعر المرء بأنّه في قلب المعمعة، وربما لا يخرج منها حيا. وما زاد الطين بلة هو أنه في تلك اللحظات سقطت، داخل الخيمة، شظية كبيرة وثقيلة، فاخترقت السقف وحطّت على بعد سنتمترات قليلة من بعض الصحافيين، وربما على بعد مترين متر او متر ونصف المتر مني.

وفور توقف القصف بعد دقائق تظنها دهرا، تخرج من الخيمة لترى المشهد الأكثر غرابة والذي لا يمكن ان تراه إلّا في غزة: مئات من الشباب يهرعون باتجاه المواقع المستهدفة، للمساعدة في انتشال المصابين والضحايا.

ولأن المستشفى الكويتي ومحيطه هو مركز تجمع وسائل الاعلام المرئية ومراسليها في رفح، فأن القصف جاء فيما كانت “الجزيرة انجليزي” تبث بشكل مباشر، فنقلت للعالم لحظات القصف بالبث الحي. وهرع المصورون خلف الناس أو معهم الى حيث مواقع الاستهداف.

وكان الموقع الأول هو مقرّ جمعية تقع على مسافة لا تزيد عن أربعين مترا من المستشفى الكويتي. وكان الاحتلال قد دمر هذه الجمعية في فترة سابقة من الحرب. ومن المؤكد أن شظايا القصف قد أصابت المستشفى الكويتي في أكثر من موضع.

وعند التقدم أكثر، على مسافة نحو مئة وخمسين مترا من المستشفى، ترى ضربة كبيرة لأرض خاوية أحدثت دمارا في البيوت المجاورة.

لكن الضربة الأقوى كانت لمسجد الإمام علي، والذي يقع على بعد نحو ثلاثمئة متر أو أقلّ من المستشفى. والصادم في استهداف المسجد هو إنه يقع على طريق البحر، وهو الطريق الرئيسي في رفح الواصل بين شرقيها وبين غربيها.

كما يقع المسجد في منطقة تجارية مليئة بالناس، خصوصا من النازحين منهم، فضلا عن وجوده بجوار مدارس إيواء نازحين.

وطبعا كان المسجد فارغا لأن الوقت لم يكن وقت صلاة، ولذلك كان الشهداء والمصابين كلهم من المارة، وقد حملهم حظهم السيء إلى هذا المكان في هذا الوقت بالذات. وقد أخرج الشباب شهداء من تحت شاحنة كانت مارّة، ومن سيارات كانت مليئة بركابها على الطريق.

أتبعد عن المكان لأعود إلى حيث أقيم، فأجد أن القصف طال بيتا كان قد قصف قبل ثلاثة أيام.

أحثّ الخطى لأصل إلى البيت لأطمئن ساكنيه بأنني وصحافي آخر بخير، فأجد من في البيت وجواره في حالة من القلق الشديد، حتّى أن بعضهم خرج الى محيط المستشفى الكويتي للبحث عني.

وما إن دخلت الشارع حيث تقيم حتى بدأ قصف شديد جديد، خلته قريب فيما هو فعليا بعيد.

وفي الواقع، فإن القصف حول المستشفى الكويتي ليس بعيدا عن الترويع الذي شهدته مستشفيات شمالي القطاع. كما أن العدو يقصد القصف في أوقات ذروة الحركة لإيقاع القدر الأكبر من الإصابات والشهداء في صفوف الفلسطينيين. وهو يريد من وراء ذلك أن يشعر الجميع أنّهم ليسوا آمنين في أي مكان يكونون فيه: في البيت، في الشارع، في المستشفى. في السيارة.

انت مستهدف كفلسطيني في كل مكان تقيم فيه أو تمر فيه. والأهم أن ذلك كلّه يحدث في منطقة طالبك الاحتلال باللجوء اليها باعتبارها منطقة آمنة، نازحا من منطقة خطر.

فالخلط الذي يريده العدو بين الأمان والخطر هو وسيلة لإرباك العقول قي وقت يكاد فيه العدو ذاته يفقد عقله جراء استمرار المقاومة برغم استمرار اكاذيبه حول السيطرة والانجازات.

شلال الدمّ على طريق الحرّية

بالأمس أيضا، وأنا بالقرب من المستشفى الكويتي، وقبل قصف المنطقة بقليل، وصل أحد الأصدقاء وأخبرني، بشكل عابر، عن تعرض بيت في مدينة غزة للقصف وأن غالبية من كانوا فيه، وعددهم لا يقل عن ١٢٠ شخصا، قد استشهدوا. لم يكن يعلم أن في هذا البيت بعض من أعزّ الناس على قلبي.

راودتني شكوك، أو لنقل إنني عمدت الى الاستهانة بما سمعت، ربما كنوع من استبعاد لصحة ما سمعت عبر التشكيك فيه.

ولكن، لم تمر سوى دقائق قليلة حتى وصلني اتصال عبر الواتساب من صديق في الخارج.

بعد سؤالي عن أحوالي، سألني إن كنت قد سمعت أخبارا من غزة. على الفور، تبادر إلى ذهني ما كنت قد سمعته قبل دقائق من صديقي الأول. فقلت له “هل تقصد استشهاد فلان”. رد قائلا “إذا أنت تعلم”.

لم أدر ما أقول، لكن وفيما كنت جالسا في الشارع، تساقطت دموع من عيني. حاول صديقي مواساتي عندما تقطع الكلام على لساني، وأعرب عن أسفه، وأنهى المكالمة سريعا.

لم أعرف ماذا ينبغي أن أفعل. كل شبكات الاتصال في القطاع متوقفة. لا سبيل للتواصل بين الشمال وبين رفح.

وقبل أن ألتقط أنفاسي بدأ القصف المخيف بالقرب من المستشفى الكويتي. رأيت المصابين والشهداء، فازدادت قناعتي بأننا باقون أحياء بالصدفة وبأن كثيرين يرتقون شهداء بالصدفة. هكذا هي الحياة في غزة تحيا بالصدفة وتموت بالصدفة. والشهداء كلّهم أنداد، بالرغم من أن الحزن يسيطر أكثر كلما كان الشهيد أقرب اليك. وقصص الشهداء لا تنتهي ولا تتوقف، لأنها شلال الدم المتدفق على طريق الحرية.

كتبت فقط تلك العبارة “الحزن على فقدان الأحبة قاتل”.

لم أخبر أحدا، وحملت نفسي بعيدا لأصل الى مكان إقامتي، لا لشيء إلّا لأنني كنت أعلم أن ذهابي الى البيت قد يخفف من القلق عليّ لدى أهل البيت لغيابي عنهم وقت القصف في غياب أي وسيلة اتصال للاطمئنان.

عدت الى البيت والدمع قي عينّي. تغدو الدموع أحيانا وسيلة لتطهير النفس، وتقصير الطريق لتقبّل الواقع. وبعدها يأتي دور تعزية النفس والقائم على أساس أن نيل الشهادة هو أفضل أنواع الموت.

فللشهادة مكانة عالية في نفوس الفلسطينيين، لا يدرك كنهها إلّا من خبرها عن قرب. رحم الله الشهداء وصبّر أهاليهم.

Exit mobile version