طلال سلمان

عنوان فعلي حوار دولة في خطر

لا يجادل أحد في أن »الحوار« بين الأطراف اللبنانيين ضرورة، بل إنه يكاد يكون، في هذه اللحظة، شرط حياة لهذا الوطن الصغير.وإذا كان الخطاب الرئاسي قد لامس موجبات الحوار واقترح له العناوين العامة تجنباً للانزلاق في مهاوي أسباب الخلاف، وما أكثرها، فإن التقدم فيه إلى غاياته يتطلب المصارحة الكاملة بين أطرافه وعدم التلطي وراء العموميات وقبلات اللقاء بعد طول افتراق وتباين حاد في ترتيب الأولويات.ليس صحيحاً أن اللبنانيين مختلفون على التفاصيل فحسب، وأن الثوابت واحدة بالنسبة لجميعهم..إن اللبنانيين مختلفون حقيقة على كل ما يتصل بالكيان السياسي وليس على النظام فحسب..إنهم يتبدون وكأنهم أمم شتى، ما يفرقهم أكثر بكثير مما يجمعهم، في حين تكاد تطمس كل أسباب وحدتهم وكل الشروط الضرورية لحياتهم معاً كما لحياة »دولتهم« التي كانت دائماً »قيد التأسيس«، والتي تكاد تفتقر اليوم إلى مقومات وجودها، خصوصاً أن الخلافات المتفاقمة والتي تكاد تصبح »خارج السياسة« تعصف بهذه المقومات وتنذر بتفككها وتبعثرها أيدي سبأ.إن مبدأ »الدولة الواحدة الموحدة« في خطر أكيد وداهم.وفي حالات عديدة يكاد الخطاب السياسي لبعض أطراف الصراع يفضح الميل إلى »الاستغناء« عن الدولة، أو الجنوح الواضح إلى تجاوزها… هذا إذا ما تساهلنا مع النبرة التي يتحدث بها بعض »الأقطاب« عن مناطقهم، فضلاً عن طوائفهم، وكأنها كيانات قائمة فعلاً، لا ينقصها إلا… اعتراف »الدول« بها!إن العديد من أقطاب الحياة السياسية يتحدثون عن »أقوامهم« و»مناطقهم« و»جهاتهم«، فضلاً عن »طوائفهم«، وكأنها فيدراليات قائمة فعلاً في انتظار الإعلان الرسمي عن إعادة صياغة »الدولة« لتضمها، مجدداً، وإنما بشروطهم التي يعتبرونها ضمانات لحقهم في التميز، و»الاستقلال« بغير حرب تنهي التواصل… لتعذر الحياة في ظل الانفصال الكامل.إن الجيش، وهو المؤسسة الوطنية الجامعة، وعنوان الوحدة السياسية، يكاد يتحول إلى قوات فصل بين »المناطق«، أي بين الطوائف المحتربة… بل إن بعض القوى السياسية أخذت تطرح الشروط على دخول الجيش إلى »مناطقها«، فإذا ما اضطرت إلى هذا التدبير الاستثنائي تحايلت ـ قبل الموافقة ـ لتعرف »أي لواء« سيدخل ليحميها من ذاتها، أو من جيرانها، وبإمرة مَن مِن الضباط سيكون، وما هو »اللون الطائفي« الغالب عليه، وهل تراه يتناسب مع أهلها، أم أنه ـ وبسبب لونه ـ سيكون في موقع الخصم؟!وليس سراً أن نوعاً من إعادة صياغة المؤسسات الرسمية، قد تم ـ واقعياً ـ خلال السنوات القليلة الماضية، فكادت بعض الوزارات والإدارات تصبح »وقفاً« لطوائف أو مذاهب محددة، وبات نقل أي موظف، أو تعيين أي مدير من طائفة مختلفة عن طائفة زميله السابق، يهدد بأزمة سياسية متفجرة… والوقائع أكثر من أن تروى، ولقد كان الناس يتندرون بها بداية، ولكنهم سرعان ما اضطروا إلى التسليم بالأمر الواقع، لأن أي تبديل قد يتحول إلى مدخل إلى الفتنة..إن المعترضين على »الدولة المركزية« قد انهمكوا في توطيد أركان دويلاتهم، مستفيدين من إمكانات الدولة ومؤسساتها التي يهيمنون عليها ـ ديموقراطياً ـ وعبر الثقة شبه الإجماعية لمجلس النواب الذي بات يفتقر إلى نصابه الدستوري في مواجهة قوى الأمر الواقع: كيف تواجه الطائفية بالدستور، في مناخ مشبع بعوامل التفجير.. الأهلي؟في الماضي كان الخلاف على مواقع الطوائف في النظام، وعلى هوية البلاد وشعبها، وعلى دور الدولة فيها جميعاً، أي بمناطقها المختلفة، لا سيما تلك الجهات التي كانت وما تزال محرومة بل ومضطهدة، والتي لا تشمل الأطراف فحسب، بل تشمل أساساً مدناً كبرى مثل طرابلس وصيدا، فضلاً عن البقاع عموماً والشمال عموماً وبعض جهات الجبل، وبعض ضواحي بيروت، بل وبعض أحياء بيروت العاصمة التي أخضعت لأبشع عملية تقسيم ديموغرافي، والتي سوف يتكرس تقسيمها العملي، بعد النفسي والعمراني، بقانون الستين الانتخابي الذي يذكّر بفتنة الستين وما سبقها، ثم ما تلاها وهو الأخطر.اليوم تشعبت الخلافات وتعاظمت حتى لامست ركائز وجود الدولة الواحدة الموحدة.لهذا كله فإن الحوار يجب أن يتجاوز عوارض الأزمة إلى جذورها الضاربة عميقاً في هذا المجتمع الذي مزقته الفتن والأغراض السياسية (الدولية منها والإقليمية فضلاً عن المحلية) المموهة غالباً بالطائفية والمذهبية… حتى يستحيل علاجها بالسياسة.والحوار بهذا المعنى هو عمل تأسيسي لهذا الوطن الذي تزايد أعداد الكيانيين فيه بحيث ضاعت دولته وتكاد تضيع هويته ويكاد يضيع دوره مما يفقده الكثير من مبررات وجوده.إن الوطن في خطر، بدولته ومؤسساتها جميعاً.والحوار المطلوب هو ذلك الذي يكون بمستوى الخطر.

Exit mobile version