طلال سلمان

عنصرية و»الجبل لبنانية«

نجحت »العنصرية اللبنانية«، وهي الدرجة العليا في »الانعزالية الجديدة«، في إجهاض الفرحة بالتحرير، ومن ثم فإن الذكرى الأولى لاستقلال لبنان بعد إجلاء الاحتلال الإسرائيلي تجيء مثقلة بهموم أخرى من خارج السياق المنطقي، بل وتكاد تكون أقرب إلى الإفساد المتعمّد لهذا النصر الاستثنائي ودلالاته التاريخية المهمة.
فمنذ بعض الوقت تجتاح لبنان موجة من الأحقاد والغرائز المستثارة بمواقف ظاهرها سياسي وباطنها طائفي، أما تعبيراتها فعنصرية تماما وكأسوأ ما يكون التباهي بالصفاء العرقي أو بالتميز في الملكات أو بالتفوق المؤكد على الآخرين!
و»العنصرية« هنا موجهة ضد الأهل، والأقربين منهم وبالتحديد السوري والفلسطيني، وليس ضد العدو الإسرائيلي الذي كاد بعضنا يبرئه من كل جرائمه المعروفة، ويشهد له بالصدق في الوفاء بالالتزامات والإخلاص في تطبيق قرارات الأمم المتحدة، والتخلي عن السياسة التوسعية والاستيطان الاستعماري، وبالحرص على السيادة والعنفوان اللبناني من قبل أن تجف دماء آخر الشهداء والضحايا الذين بذلوا حياتهم من أجل التحرير.
حتى من قبل أن يُصدر المطارنة الموارنة »نداءهم« الأول، بكل ما استولده من ردود فعل مؤيدة أو مستنكرة أو غاضبة، ومن تداعيات سياسية أثرت سلبا على صورة الحكم وهزت اليقين باستقرار الأوضاع في البلاد..
… ومن قبل أن يتنادى الشركاء في المصالح إلى إقامة جبهة الصفاء العنصري اللبناني في وجه »الأغراب«، عمالاً وطلاباً وسائقي شاحنات وباعة كعك، ناهيك بالمحرومين من أي عمل والمحصورين المحاصرين في مخيمات لجوئهم والمحرم عليهم إظهار التعاطف مع أشقائهم المتساقطين مضرجين بدمائهم على أرض فلسطين..
.. ومن قبل أن تُطرح في البلد المأزوم سياسيا والمنهك اقتصاديا مسائل »متفجرة« تحوِّل الاهتمام عن الأسباب الفعلية للأزمة والمسؤوليات إلى »تفاصيل« يمكن تحويلها بفضل العنصرية إلى »قضايا« تستقطب الشباب وتبرر الاعتصامات في الجامعات والمسيرات الشعبية والبيانات الثورية وتسمح بتمرير التحالفات المجافية للطبيعة..
حتى من قبل ذلك كله، وفي ظل الانكسار العام، كانت محاولات إعادة توكيد الثقة بالذات أو إعادة الاعتبار إلى الذات تتخذ سياقا عنصريا.. كأنما اللبناني لا يكبر ولا يستعيد جنته المفقودة إلا بتصغير جاريه شقيقيه الأقربين السوري والفلسطيني!
وشيئا فشيئا وعبر تبلور التحالفات الجديدة عاد إلى الظهور ثم استشرى منطق »جبل لبناني« يجافي واقع الحياة، وقبل ذلك العقل، فضلاً عما طرأ على الدنيا من تحولات ليست أبسطها الوحدة الأوروبية وليست آخر مظاهرها العولمة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
كيف يمكن تعريف المنطق »الجبل لبناني«؟!
} بالمنطق »الجبل لبناني« يتوارى »الوطن« ليفسح في المجال لبروز »الكيان«.
والكيان غير الوطن. الكيان قرار سياسي خارجي على الأغلب يصدر باستغلال أوضاع داخلية، أو بالأحرى خلافات داخلية غالبا ما تكون طائفية أو مذهبية، فيبني عليها أو انطلاقا منها قاعدة ارتكاز للنفوذ قائمة على استثمار خوف كل طرف من الآخر واحتياج الطرفين إلى حماية خارجية.
على هذا فلا قيمة للأرض، في المنطق »الجبل لبناني«، إذ لا علاقة للجغرافيا بالكيان، أما التاريخ فشأنه هيّن إذ تمكن فبركته بالاجتزاء والانتقاء وطمس المعيب وإبراز المشرق من الصفحات المختارة من كوم التراكمات وآثار الأقدمين.
كذلك فلا معنى للوطنية ناهيك بالقومية في المنطق »الجبل لبناني«. الطائفية هي الأساس، مرتكزة على الكيانية الضيقة جدا، جدا، والتي لا تتسع لأكثر ممن تبقى في تلك المناطق »العاصية« بعدما طرد منها المشكوك في ولائهم للكيان ممن تجمعهم رابطة ما »بالمحيط« الذي يصير عداؤه شرطا للتميز ومن ثم للحماية الأجنبية من… »الخطر العربي«!
} بالمنطق »الجبل لبناني« ليست للمدن قيمة. إنها »أرض مفتوحة« لمن يأخذها وليست من صلب »الكيان«.
وليست »للداخل«، أو الملحقات، أو الأطراف في الشمال والشرق والجنوب أية قيمة… انها من خارج »الكيان«، وهي من خارج »الثنائية التاريخية«، ثم إنها مؤهلة بالكثرة العددية لأن تخربها وتفسد الصفاء العنصري لأقليتين عربيتي الأرومة قررتا في لحظة سياسية محددة الخروج على العروبة وتبعاتها الوطنية الثقيلة.
} بالمنطق »الجبل لبناني« ليس الإسرائيلي عدواً، بالضرورة… بل ربما كان »النموذج« المتقدم، المثال، أو ربما كان الضامن أو الحامي للكيان، خصوصا بكونه الوكيل المحلي للسيد الأجنبي البعيد.
وبالمنطق »الجبل لبناني« عليك أن تكون مع الأقوى، من الجيران ودول المحيط.. وما دام الإسرائيلي هو الأقوى، أقله في المدى المنظور، فمن الغباء أن تجهر بعدائه فكيف بأن تشهر السلاح في وجهه ولو محتلاً؟!
} يتصل بذلك، في المنطق »الجبل لبناني« أن فعل المقاومة من أجل التحرير سذاجة سياسية وتهوّر انتحاري: هؤلاء السذج الذين يصدقون أسطورة قداسة الأرض فيذهبون إلى الموت طلبا للجنة! هؤلاء الأغبياء الذين يضحون بأنفسهم من أجل غيرهم في بلد فلسفته: »أنا ومن بعدي الطوفان«!
} ويتصل بذلك أيضا أن يعمل في إسرائيل أو يتعامل معها ليس بالضرورة خائنا، بل هو لعله قد أفاد بعمله الاقتصاد اللبناني في لحظة أزمة، فاليهود تجار ملاعين، لكن اللبناني ألعن وأشطر منهم، وهو قد أخذ منهم الكهرباء والماء والدولارات ثم لم يعطهم إلا بعض ما يعرفونه، خصوصا أنهم يعرفون كل شيء عن كل الناس في كل البلدان، ومن العبث مواجهتهم بالقوة التي يملكون أحدث معداتها وأسرارها كافة!
} وبالمنطق »الجبل لبناني«: من التحق بنا فهو منا، ولو كان من أقصى الأرض.. والأجنبي خير من العربي حكماً، والعربي الأغنى على الرحب والسعة، أما الأفقر فإلى جهنم وبئس المصير.
* * *
يمكن الاستطراد طويلاً في شرح المنطق »الجبل لبناني« الذي يقسم المواطنين نوعين: لبنانيين لبنانيين، هم أبناء الجبل الكيان القائمقاميتين المتصرفية، تحديداً، ثم سائر خلق الله ممن أنعم عليهم بالهوية اللبنانية اضطراراً (وهم غير أولئك الذين سعينا إليهم بهويتنا المبجلة في بيوتهم لأنهم قادرون على دفع الثمن)..
وهؤلاء »اللبنانيون اللبنانيون« يعملون بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ليحوزوا جواز سفر من الدرجة الأولى (أميركي مثلاً، كندي، فرنسي، أسترالي، سعودي، كويتي، إماراتي) أو وثيقة إقامة مفتوحة… يتحايلون لكي تسافر زوجاتهم وهن حوامل لكي يولد أبناؤهم في البلاد النظيفة وعن طريقهم يمكن التحرر من هذه الهوية التي لا تطعم خبزا..
هؤلاء الذين يعتزون بالكيان إلى حد التسبب بتدميره بالحرب الأهلية مرة كل عشر سنوات، أو يزيد قليلا، يرون أنفسهم أرفع مكانة من جيرانهم الأقربين، ويمارسون عليهم نوعاً من الاستعلاء العنصري غير المبرر، ويحمّلونهم المسؤولية عن كل مشكلاتهم: بدءاً بعجزهم عن بناء دولة، وسوء إدارتهم، والنقص في ولائهم لأرضهم، وتقديم الفرد على المؤسسة، والطائفة على الوطن، والمصلحة الشخصية على كل القيم والاعتبارات..
هؤلاء ينشرون في لبنان نزعة انتحارية، عبر هذه »العنصرية« التي يمارسونها باعتداد شديد وتحت لافتات تكثر من ذكر الكرامة والسيادة والعنفوان والاستقلال، بينما ينكرون على المقاومة اسمها (ناهيك عن جهدها المبارك) وكانوا ولعلهم ما زالوا يعتبرونها »فيلقاً أجنبياً«، وقد كانوا يظهرون اطمئنانا إلى الاحتلال الإسرائيلي أكثر مما أظهروا ويظهرون من الاطمئنان إلى »حزب الله« في الأرض المحررة.
مثل هذه »العنصرية« سترتد إلى الداخل، فتزيد الاختلاف السياسي حدة بحيث توصله إلى الانقسام، وتخرب السلم الأهلي معيدة نشر أجواء الحرب الأهلية التي يرونها ببساطة مذهلة »حروب الآخرين على أرضنا«، كأنما الذين اقتتلوا فذبح بعضهم بعضاً في كل بيت داخل العائلة الواحدة في الطوائف العظمى، كانوا من »الآخرين« أو من »الأغراب« الذين لا يجوز أن نخالطهم حتى لا نفقد طهارتنا العرقية!
* * *
المسألة في الداخل، وفي نظام الداخل، وفي المفاهيم السائدة في الداخل حول الوطن، الأمة، الانتماء القومي ومن ثم الدولة، مقابل الكيان بدلالاته الطائفية المباشرة وارتباطه الدائم بفكرة الحماية الأجنبية.
إن الخلاف حول الوجود السوري مجرد عنوان سياسي لأزمة مجتمعية أشد عمقاً بما لا يقاس… ولعلها تتخذ حجمها الفعلي إذا ما استذكرنا هذا الاضطهاد المنهجي وهذا التحقير المتواصل للفلسطيني الذي ألجأته الظروف إلى لبنان، والذي نكاد نمنع عنه الهواء في مخيماته حتى إذا تناهى إلى سمعنا أن ثمة عروضاً لشرائه بالدولارات دخلنا البازار من أوسع أبوابه واعتبرناه مصدر استثمار مجزٍ: نبيعه مقابل ديوننا الثقيلة فنربح مرتين، إذ نتخلص منه ونتحرر من هذا الارتهان لأصحاب الدين!
إنها العنصرية لا الوطنية.
إنه المرض وليس الدواء.
فلنحذر أن يستشري هذا الداء فيدمرنا تدميرا.
وليس أسهل من أن نستمر في التحاور حول كل خلافاتنا السياسية، وأن نتوصل إلى حلول لها إذا ما عدنا إلى العقل… وهي رحلة طويلة لأن الغرائز فتاكة، ولأن من يستثمرها صاحب كفاءة عالية في الفتنة وفي تزوير الحقائق وتشتيت أصحاب القضية الواحدة والمصلحة الواحدة.

Exit mobile version