طلال سلمان

عندما قال لي طلال سلمان انتهى زمننا.. وهذا ليس زماننا.. كانت لحظة مؤلمة ان يطفيء انوار مكتبه.. ويغادره للمرة الاخيرة . نحن لا نودع السفير وانما ارث سياسي

ليس هناك اصعب على الناشر او رئيس التحرير، او الاثنين معا، ان يعجز عن تسديد رواتب الزملاء العاملين معه، ويضطر الى كتابة افتتاحية الوداع والدموع تهطل من عينيه، خاصة اذا كانت علاقته بالصحيفة تمتد الى ما يقرب من النصف قرن من الصدور اليومي دون انقطاع.
مررت شخصيا بهذه التجربة القاسية قبل ثلاث سنوات، وودعت زملاء اعزاء في لحظة مؤثرة اختلطت بالدموع، بعد ربع قرن من العمل في صحيفة عانت كثيرا من الشح المالي، والضغوط السياسية والمالية، والتهديدات بالاغتيال من قبل اكثر من جهة، ولذلك اجد نفسي متعاطفا ومتضامنا ومتفهما للصديق طلال سلمان، رئيس تحرير صحيفة “السفير”، وكل الزملاء الذين شاركوه في مسيرته الشاقة على درب الآلام الممتدة لاكثر من 42 عاما.
ربما يختلف كثيرون مع صحيفة “السفير” وخطها السياسي، ونهج ناشرها ورئيس تحريرها، والاختلاف مشروع وهو سنة الحياة، والكمال لله وحده، ولكن هؤلاء لا يمكن ان ينكروا ان صحيفة “السفير” كانت “حاجة وضرورة” سياسيا واعلاميا، ومدرسة احتضنت، او تخرج منها، المئات من كبار الصحافيين والادباء والمحللين والسياسيين في الوطن العربي، امثال محمود درويش، وادونيس، وناجي العلي، وعبد الرحمن اليوسفي، وجوزيف سماحة، وبلال الحسن، وايلي الفرزلي، والقائمة تطول، وليعذرنا من لم نذكر اسمه.
نعم صحيفة “السفير” كانت ثورة اعلامية، وموقفا سياسيا، وصوتا للذين لا صوت لهم عندما اصدرت عددها الاول قبل 42 عاما تقريبا، لتكسر هيمنة “البرجوازية” الصحافية، وتفتح صفحاتها لكل المحرومين والمبدعين والثائرين والمتمردين، الذين اغلقت المنابر الاخرى ابوابها في وجوههم، وابداعهم، ووجهات نظرهم.
لم اكن من كتاب صحيفة “السفير” في يوم من الايام، ولم اتخرج من مدرستها مثل المئات من زملاء المهنة، ولكنها كانت بالنسبة لي، وربما لزملاء كثر، الملاذ الذي يمكن اللجوء اليه، انسانيا او صحافيا، يكفي انها كانت هناك، وان ناشرها من النادر ان يرد طارقا لبابه، سائلا عن حاجة “تعبيرية”، ولذلك شعرت بحالة من الحزن والكآبة، وترقرقت الدموع في عيني تأثرا، وانا ارى المشهد الاخير للاستاذ طلال سلمان وهو يطفيء انوار مكتبه، الذي خرّجت منه العديد من الافتتاحيات النارية التي تتناول شأنا عربيا، او لبنانيا، او دوليا، وهو المكتب الذي تحول، وعلى مدى عشرات السنوات، الى منتدى سياسي وادبي، يؤمه العديد من الكتاب والادباء والمفكرين، وآخر زواره الراحل محمد حسنين هيكل، عميد الصحافة العربية، قبل رحيله بأشهر معدودة.
عندما قابلت الاستاذ طلال سلمان قبل اشهر في بيروت كان مهموما مكتئبا، فارقته تعليقاته اللاذعة، وإرادة الصمود، بعد ان ضاقت في وجهه المخارج من الازمة، او انعدمت، وقال لي ونبرة الحزن تسيطر على كلماته، وتترك اثرها واضحا “يا صديقي انتهى زمننا.. وحانت ساعة الرحيل”.
حاول ناشر السفير، وربان سفينتها، ان يؤجل الموعد، وان يشتري بعض الوقت، وباع المطبعة، والمبنى، واشياء كثيرة اخرى، الا كرامته ومبادئه وقيمه، ولكن في نهاية المطاف حانت لحظة الوداع الحزينة.
وربما يجادل البعض بأنها ازمة الصحافة الورقية التي تلفظ انفاسها الاخيرة، وتنسحب من الميدان الاعلامي الصحيفة تلو الاخرى، لتراجع القراء التقليديين وانقراضهم، لمصلحة جيل الكمبيوتر، والاي باد، والهاتف المحمول، والمدونات، وصحافة المواطن، ويذّكر هؤلاء بأغلاق صحف عريقة ابوابها، مثل كريستيان ساينس مونيتر، نيوزويك، وفرانس سوار، والاندبندنت، وتحولها الى منابر الكترونية رقمية، وهذا جدل في محله، ولكن محنة “السفير” لا تعود الى اسباب تجارية اقتصادية، وانما لانها ايضا صاحبة موقف مختلف، وسياسة عنيدة في رفض محاولات تدمير هذه الامة، ونزع كرامتها، وتغيير هويتها، وتفتيت وحدتيها الديمغرافية والجغرافية، وبذر بذور الفتنة الطائفية للاجهاز على ما تبقى لها من طموحات في نهضة عربية شاملة.
***
صحيفة “السفير” ارث عظيم من الكفاح يمتد لاربعة عقود، ولا نعتقد ان هذا الارث سيتوقف او يختفي، بل سيتجدد، وربما يتعزز ويتطور للافضل، وما فيضان المحبة لهذه الصحيفة وصاحبها، الذي اغرق وسائل التواصل الاجتماعي الا احد الادلة التي تؤكد ما نقول.
“السفير” ستعود حتما، بصورة او باخرى، واعتقد ان لبنان سيكون غير لبنان الذي نعرفه بدون هذه الصحيفة، وكل زميلاتها التي تعاني حاليا من ازمات خانقة، ونخص بالذكر صحيفة “النهار” التي لم تدفع رواتب موظفيها منذ 15 شهرا.
ربما ستندثر الصحافة الورقية لمصلحة الصحافة الرقمية، وربما يترجل الفرسان فاسحين المجال لنظرائهم من الجيل الجديد، لكن الاقلام الحرة الشريفة العنيدة لن تندثر، وستجد طرق عديدة للتعبير، وفي منابر غير تلك التابعة للامبراطوريات الاعلامية العربية المهيمنة والمشاركة في اعمال التضليل والتزوير الطاغية حاليا.
لن ينجحوا في اسكاتنا، ومصادرة حقنا في الكتابة، وقول ما نرى انه الحق، وانحيازا للمواطن العربي المسحوق، حتى لو لجأنا الى الكتابة على الحيطان.

عبد الباري عطوان

رأي اليوم، 31/12/2016

Exit mobile version