طلال سلمان

عملية حريري اقتحامية

نجح رفيق الحريري في »امتحان الجدارة« وبامتياز.
في الشكل: ليس من السهل على اي مسؤول لبناني (او حتى عربي) آخر ان يلتقي »كل« الادارة الاميركية الجديدة، الرئيس ونائب الرئيس ووزير الخارجية ووزير الدفاع وسيدة مجلس الامن القومي ووزير الخزانة اضافة الى حفلة »المصارعة الحرة« في الكونغرس، خلال هذه المدة القياسية (اقل من ثلاثة ايام)… من دون ان ننسى رئيس البنك الدولي، وبعض كبار رجال الخارجية ورجال الاعمال ورجال المهمات السرية العلنيين.
أما في المضمون: فلقد نفذ رفيق الحريري عملية اقتحامية موفقة للمنطق الاميركي المعتمد (حتى الساعة) في التعامل مع قضية الصراع العربي الاسرائيلي انطلاقاً من موقع لبنان فيها (بمعزل عن الرغبة او القدرة)، وحاول ونجح الى حد ما في تظهير الصورة الحقيقية، فارضاً تجاوز مقولة »العنف«، وملغياً الذرائع التقليدية التي تساق لتبرئة اسرائيل من جنون القتل الناجم عن جنوح اكثري الى مزيد من التطرف الدموي ذي الجذور العنصرية، المستند الى دعم سياسي اميركي مفتوح فضلا عن الدعم العسكري النوعي للتفوق المطلق الذي تملكه في مواجهة العرب مجتمعين.
وبفضل تماسك المنطق الاقتحامي فقد فرض الحريري على محاوريه سحب معظم الذرائع الاسرائيلية المصدر، او التي تخدم المسلك الاسرائيلي، وبينها: موضوع نشر الجيش اللبناني (بالقطار الاحادي) على طول الحدود الفلسطينية، وموضوع الوجود العسكري السوري في لبنان، مداه الزمني وإطاره الجغرافي، كأحد تجليات علاقة التكامل السياسي الذي يعبَّر عنه عادة بتلازم المسارين، ووحدة المصير المجسد في وحدة الموقف والصمود لمشاريع التوسع والهيمنة الاسرائيلية وإدامة الاحتلال وإلزام الاطراف العربية بتوطين اللاجئين الفلسطينيين.
كذلك، فبفضل المنطق الاقتحامي ذاته تبنى الحريري منطق المقاومة بغير تحفظات، واضعاً خلف ظهره بعض الإشكالات التي سبقت الزيارة واتخذت من »التوقيت« موضوعاً للاعتراض، منعاً لأي اختلال يسهل استغلاله للوقيعة.
لقد بررت الزيارة نفسها بنتائجها التي أسقطت كثيرا من التوقعات أو التقديرات أو محاولات إثارة الشبهات حول التوقيت والاستهدافات والأغراض أو التشكيك في مقاصد هذا التحرك »من خارج المقرر«.
انضبط رفيق الحريري داخل نطاق مهمته، كما حددها لنفسه في ضوء مجمل المعطيات السياسية والالتباسات الكثيرة التي تحكم العلاقات داخل الحكم، بداية، ثم بين الحكم والقوى السياسية، هذا قبل أن نصل إلى دمشق وحساباتها الدقيقة التي تحكم الكلمة والمسلك واللفتة وزمان القول.
الأهم أن رفيق الحريري لعب دوره العربي، والسوري تحديدا، من موقعه كرئيس للحكومة في لبنان: لم يغادره ولم يتنكر له، ولم يتجاوزه.
تحدث عن الدور السوري، وعن الوجود السوري، وعن العلاقات المفتوحة لبنانياً مع سوريا كمصلحة لبنانية، أولا وثانيا وثالثا، ثم كمصلحة قومية يفرضها المصير المشترك ووحدة »العدو« مصدر الخطر (وهو الاحتلال الإسرائيلي).
ولعل من الضروري التسجيل ان الموقف الرسمي الأميركي كان يبتعد عن رصانة الدولة العظمى ويجنح إلى تبني المنطق الإسرائيلي بقدر ما يهبط تدرجا من مواقع الأكثر مسؤولية في اتجاه المزايدين (تحت) لكسب تأييد أصوات اليهود (الكونغرس، تحديدا).
لقد ذهب رفيق الحريري مغامرا.
لكن حصيلة الرحلة جاءت تزكية لهذا المغامر الذي اختار المركب الخشن، وزاده: تراث لبنان المقاوم، وقد وجده أمامه في واشنطن، ومناعة الصمود السوري، ثم هذا العبق الذي ينشر شذاه في العالم كله لدماء الشهداء في انتفاضة الأقصى وهي تواجه جنون العنصرية الإسرائيلية المنفلتة من عقالها والتي أوصلت الجنرال السفاح أرييل شارون إلى سدة السلطة.
ترك الحريري سفسطات وحرتقات السياسات المحلية خلفه، وتجاوز المخاصمات والمناكفات والحسابات الصغيرة، فنجح في »امتحان الجدارة«، بغير أن يمكن »خصومه« منه.
وتبقى جولة أخيرة غدا في الأمم المتحدة مع أمينها العام الأميركي الهوى الراغب في ولاية جديدة يدفع ثمنها للأقوى من حساب الأضعف.
وفارق كبير بين مواجهة كوفي أنان الآتي من إسرائيل إلى بيروت تحت غطاء أميركي، وبجميل أنه قد نفذ القرار 425، وقد أخذه الشغف بالمنطق الإسرائيلي إلى حد اعتبار »الخط الأزرق« حدودا دولية، وبين مواجهته غدا لهذا المسؤول اللبناني الآتي من واشنطن وقد أقنعها، أو أحرجها، بمنطقه القوي الذي سبق لأنان أن سمعه في بيروت بأعلى الصوت، وأكثر من مرة، والذي لن يسمع غيره غداً… حتى إذا »اشتروه« بالولاية الجديدة.

Exit mobile version