طلال سلمان

على طريق

تمارس بعض »القيادات السياسية« في لبنان ترفاً فقهياً ملتبس الأغراض والمقاصد، بحيث تكاد تفسد الشعور بالارتياح الذي واكب حالة الانتقال بين العهدين..
وهي تمارس مثل هذا الترف الفقهي بينما المنطقة العربية ترتج تحت ضغوط الحشود العسكرية الأميركية المتجهة مرة أخرى لتأديب العرب كلهم بذريعة تهوّر صدام حسين، كما تحت خطة الاجتياح الإسرائيلي المتواصل للأرض الفلسطينية بالمزيد من المستوطنات الملغية للاتفاقات جميعا التي أولها أوسلو وآخرها »واي ريفر«…
.. وهو ترف يتجاوز ظاهره الفقهي ليمس الغرائز والحساسيات الطائفية والمذهبية، مثيراً مخاوف كامنة، محركاً ذكريات سوداء، وفارضاً جواً من الإحراجات السياسية غير المبرّرة.
والمفارقة التي يعيشها اللبنانيون انهم يتنقلون بعيونهم وآذانهم وعقولهم بين صور حاملات الطائرات وقواعد الصواريخ الأجنبية التي تتهدّد العراقيين المحكومين بالبؤس، والمعلّقين على منصة الإعدام، وبين صور المسؤولين الإسرائيليين وهم يفرضون مزيداً من الشروط المذلة على السلطة الفلسطينية، واللاغية لفلسطين جميعا، ثم ينتهون بهذا الجدل المفتعل والمريب والذي يكاد يشوّه مساحة التقاطع بين الرغبة الشعبية في لبنان والقرار الحكيم للقيادة السورية في اختيار العماد إميل لحود رئيساً وعنواناً للعهد الجديد.
الناس بالناس والقطة بالنفاس،
متى الهجوم على بغداد؟!
كم بقي من القدس؟!
.. وصمود دمشق التي تتواصل المناورات والمؤامرات لعزلها أو استفرادها، تارة من الشمال وأخرى من الشرق ودائماً من الجنوب؟!
وهل يحتاج أي عاقل إلى مَن يشرح له أن صمود سوريا ومعها لبنان هو الهدف الأول والأهم لهذا الهجوم المتكامل الذي يشارك فيه الأميركيون الإسرائيليين، مع وعد للحكم التركي بحصة من الغنيمة، وللنظام الأردني بفتات الفتات؟!
أما نحن في لبنان فنكاد نَغرق ونُغرق إخواننا معنا في هذا الترف الفقهي الذي يتركز على إعادة تفسير دستور الطائف، وإعادة توضيح الحدود بين صلاحيات كل من الرؤساء، وبمعنى آخر وضع التخوم بين حصص الطوائف والمذاهب في لبنان،
كل هذا بينما العهد المنتهي خلال أيام متعب القلب (عافى الله الرئيس الياس الهراوي) ومثقل بالاتهامات ظالمة أو محقة والتي تمتد من سوء الأداء إلى الممارسات السيئة السمعة لبعض »الثوابت« في حكوماته والمجالس والإدارة وسائر مواقع النفوذ،
… وبينما العهد الجديد يتقدم حذراً نحو أثقال من المصاعب، الاقتصادية خاصة، بين عناوينها نقص المال المتوفر للإنجاز، والحجم المخيف للدين العام، والعجز الملفت في الموازنة، ناهيك بموجبات المطالب والاحتياجات الاجتماعية المتزايدة.
لقد تجاوز الجدل الفقهي حدود الأمان.
بل انه في بعض صوره وتعبيراته قد بدأ يلامس مجادلات ما قبل مؤتمر الطائف وقيام الجمهورية الثانية.
وهو في بعض »حيثياته« أخذ يعيد طرح مسألة التوازنات الطائفية على قمة السلطة، وكأن »طائفة« جديدة قد شنت هجوما صاعقا فاستولت على قمة السلطة!
أما في جانبه الخفي فإن هذا الجدل أو الترف الفقهي يشير الى ان خللاً ما كان قائماً في العهد المنصرم، وان بعض أطراف السلطة كان قد تمدد بأكثر ما تتيحه الصلاحيات على حساب الأطراف الأخرى، وأنه يرفع الصوت بالاعتراض الآن لتثبيت الأمر الواقع القائم، وهو مغلوط أو غير سويّ باعتراف الجميع، ولأي طائفة انتموا…
إن رئيساً جديداً للجمهورية قد انتُخب، وهو سيتسلّم صلاحياته من الرئيس الهراوي بعد أيام.
وطبيعي مع حدث من هذا النوع أن تعيد القوى السياسية حساباتها، وأن تراجع تحالفاتها فتحاول تعزيزها بما يحمي مواقع مَن لهم مواقع، أو تحاول القفز إلى مواقع كان قد استأثر بها آخرون..
هذا من حق أي طرف سياسي، وبغض النظر عن مدى توافقه أو اختلافه مع الرئيس الجديد،
ولو أنها لعبة بحت سياسية لما كان ثمة وجه للاعتراض،
لكن الخطر في الأمر أن اللعبة، وكالعادة، سرعان ما تجاوزت حدود السياسة مندفعة إلى حقل ألغام شديدة الانفجار، طالما اغتالت أحلام اللبنانيين وآمالهم إضافة الى حقهم في حياة طبيعية.
وإذا كان من حق الرئيس الياس الهراوي أن نحفظ له ما أنجزه، بمعزل عما قيل ويُقال في عهده، فإن من حق الرئيس المنتخب إميل لحود أن نجنّبه محنة اجتياز حقل الألغام، هذا، لإثبات كفاءته أو جدارته بموقعه السامي.
خصوصاً وأنه، مثل الرئيس الياس الهراوي، ليس طائفياً، بل هو عدو للطائفية والطائفيين، وأعظم وعياً من أن يُستدرَج إلى مثل هذه اللعبة الجهنمية التي لن تنفع في حماية المواقع ولكنها قد تتسبّب في إيذاء عظيم للدولة بشعبها والحكم والمؤسسات.

Exit mobile version