طلال سلمان

على طريق كولن باول ومعنى استثناء لبنان

لم يتسع وقت وزير الخارجية الأميركية لزيارة لبنان خلال جولته الأولى في المنطقة، التي جعلتها محاسن الصدف تقع في الذكرى العاشرة »لتحرير الكويت« بعاصفة الصحراء التي جعلت العرب عربين وجعلت السلاح الأميركي الحكم بينهما.
بدلاً من الوزير الجنرال كولن باول أُجبر لبنان على »استقبال« الطيران الحربي الإسرائيلي الذي »تفقده« فاطمأن على أهله من أقصى جنوب التحرير إلى أقصى الشمال، مروراً بالبقاع والعاصمة بيروت.
العقوبة مزدوجة، إذاً، خصوصاً إذا ما اعتبرنا »نزهة« الطيران الحربي الإسرائيلي في سمائنا ترجمة فورية للرسالة الأميركية باستثناء لبنان من جولة الوزير الجنرال.
طبعاً ستتعالى الأصوات المعروفة تلوم الحكم وتحمله المسؤولية عن هذا »الإهمال« الأميركي، وعن الاستغناء عن بيروت بدمشق، بغير أن يتوقف أصحابها لحظة أمام طبيعة المهمة التي جاء يقوم بها الوزير الجنرال برغم أنها معلنة بأعلى الصوت وباللغات الإنكليزية والعبرية و»العربية« ذات اللهجات المتعددة.
»إذا أهملتك أميركا فأنت المخطئ، وإذا قلت غير ذلك فأنت تخطئ مرتين إذ هل يعقل أن يتهم عاقل الولايات المتحدة العظمى بأنها قد تخطئ«؟!
سيتجاهل هؤلاء أن باول جاء يبلغنا بغير أسف أو اعتذار أن »عملية السلام« التي أطلقتها واشنطن، قبل عشر سنوات، والتي كان عنوانها مؤتمر مدريد، قد توفيت »تحت العملية« ولا مجال لبعثها من جديد،
… وأن الجنرال الذي صار دبلوماسيا جاء يبلغنا أن مصدر الخطر الوحيد في المنطقة وعلى المنطقة هو العراق، وأن قاعدة العلاقة مع أي طرف عربي هي: العراق هو العدو، فعدو عدوي صديقي، وصديق عدوي عدوي ولا استثناء!
بهذا المعنى فإن إسرائيل هي »الصديق« الأكمل، فضلاً عن كونه الأقوى، و»الالتزام الأميركي بإسرائيل صلب كالصخر« على حد ما أعلن كولن باول خلال لقائه مسؤوليها من أبطال »السلام«.
وبهذا المعنى فإن باول قد تجاهل ما سمعه من المسؤولين العرب الذين التقاهم، على الطريق، في القاهرة بداية ثم في رام الله وأخيرا في عمان وقبل الوصول الى »العيد« الذي كان ينتظره في الكويت، من اعتراضات على استمرار فرض حصار التجويع على العراقيين.
.. وأعاد أمامهم التأكيد على استمرار الضربات العسكرية الاميركية (البريطانية) من اجل التدمير الشامل للعراق وبذريعة منع صدام حسين من احتمال إنتاج أسلحة الدمار الشامل!
أكثر من هذا، أعلن باول رسميا، ومن جانب واحد، فك »التحالف« الذي لم يكن في أي يوم تحالفا فعليا، مع »الشركاء« العرب في الحرب على العراق، ليعيد للصورة صفاءها الاصلي: اسرائيل هي الحليف الوحيد للولايات المتحدة الاميركية في هذه المنطقة، وكل من عداها »متعاونون« او »متعاملون« او »ملتحقون« قد تسبغ عليهم نعمة الحماية ولكن لا مجال لموقع الحليف ناهيك بالشريك.
على هذا فالموقف من اسرائيل يحدد مدى القرب من واشنطن او البعد عنها!
فكيف لمن قاوم اسرائيل حتى اجبر جيش احتلالها على الجلاء ان يطمع بزيارة وزير خارجية الولايات المتحدة الاميركية!
ثم، كيف لمن يرمي بالحجارة الدبابات الاسرائيلية التي تهدم عليه بيوته وتحرق محاصيله واشجاره وتسد ابواب مدارسه، ان يطمع بأن تساعده الولايات المتحدة الاميركية على استئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من حيث توقفت؟!
لا بد لفتية الحجارة من أن يوقفوا عنفهم، وأن يفسحوا الطريق أمام الدبابات والمدافع وقنابل الغاز السام والرشاشات لكي »توقف العنف« و»تعيد الهدوء« ثم بعد ذلك تبذل واشنطن مساعيها الحميدة لكي يوافق الجنرال شارون على مصافحة ياسر عرفات، لأن »الحوار مستحيل في ظل الارهاب« على حد تعبير »بطل السلام الابدي« لسكان مخيمي صبرا وشاتيلا!
* * *
إذن، فأمر العمليات الاميركية الجديد: استئناف الحرب من حيث توقفت، ضد العراق، وفي انتظار تحقيق الهدف النهائي لا بد من طي ملف »عملية السلام«، أقله ريثما ينتهي العنف ضد إسرائيل، فتتوقف الانتفاضة ويتم الاعتذار عما ارتكبته من إرهاب، ويترك لارييل شارون ان يقرر للفلسطينيين نصيبهم من »الغذاء مقابل وقف العنف« بما عرف عنه من مشاعر إنسانية نبيلة!
وهكذا فالحرب ضد العرب حربان: أميركية انطلاقا من العراق واسرائيلية انطلاقا من فلسطين… والخيار مفتوح أمام هؤلاء العرب، من أراد هذه فهي له، ومن أراد تلك فهي له ومن أراد الحربين فهما له!
فأما العراق فقضية حربية تحلها الغارات اليومية والحصار والعزل والمقاطعة وقمع المتعاطفين وتأديب من يكسر الطوق ولو بالتجارة،
وأما فلسطين فهي مشكلة أمنية بحت اسرائيلية ليس لأحد خارج اسرائيل من علاقة بها الا من الزاوية الانسانية، كإرسال الأدوية والمصل والبطانيات والخيم وربما بعض المواد الغذائية..
هذا هو المفهوم السياسي الأميركي الذي جاء كولن باول لتعميمه في دنيا العرب عشية الذكرى العاشرة لانتصاره التاريخي في إلحاق الهزيمة »بأخطر رجل في العالم«، صدام حسين، في »أم المعارك«.
***
إنها صورة أميركية جديدة للمنطقة،
و»معاقبة« لبنان بحرمانه من طلة كولن باول تجيء من ضمن هذه الصورة العامة وليست موقفا اعتراضيا على نقص في سيادة لبنان على أراضيه أو على »إلحاقه« أو »التحاقه« بالسياسة السورية،
وفي أي حال فإن كولن باول لم يستثن لبنان من جولته كنوع من التأييد للمعارضات الداخلية، أو بقصد الضغط لإطلاق »الحوار« سعيا الى »المصالحة الوطنية«، أو احتجاجا على عدم اطلاق »السجين« أو عدم عودة »المنفي«،
وبالمقابل فهو لم يستثن لبنان من جولته كتعبير عن الدعم الأميركي المفتوح لمسيرة نهوضه الاقتصادي وتشجيعا للمستثمرين على توظيف اموالهم فيه..
وأخيرا فإن استثناء لبنان من جولة باول كان فرصة لكي يتابع أهل الحكم اهتمامهم بما يفيد الناس في رزقهم، كاللقاء الذي ينظمه الرئيس الفرنسي شيراك غدا في باريس تلبية لطلب رئيس الحكومة، ويفيد قضية لبنان وصورته في العالم، كالزيارة التي سيقوم بها رئيس الجمهورية الى ايطاليا والفاتيكان استهلالا لجولة أوسع تشمل دولا عديدة لا تصنفنا في خانة العدو أو صديق العدو.

Exit mobile version