طلال سلمان

على طريق قرار حكم وليس شارع

لعلها الساعة، لعله الموعد: أن تظهر الدولة التي متى غابت يصير اللبنانيون طوائف ومذاهب وقبائل وعشائر وبطوناً وأفخاذاً، وأن يتولى الحكم زمام الأمور التي لا يملك أي طرف سياسي طائفي أو طائفي سياسي أن يقرر فيها، فكيف إذا كان منفرداً ومن وراء ظهر الآخرين أو بالتواطؤ عليهم؟!
لا تستطيع الدولة أن تستمر معتصمة في برج الموقف المبدئي، خوفاً من أن يستدرج الحكم إلى موقع »قوة الفصل« بين المختلفين على البديهيات التي يبرع البعض في تحويلها إلى »استثمارات« وسلالم إلى الزعامة والوجاهة ولو على حساب الشعب والوطن والأمة.
لقد لامس الاصطفاف الطائفي حدود الخطر، مهدداً بالانتقال من التراشق بالمواقف إلى المواجهة في الشارع، و»بكل أنواع الأسلحة والأحقاد« كما تدل مناشير الدعوات إلى التجمع والدعوات إلى التظاهرات الضد.
وبعد المواقف التي صدرت عن مختلف القوى المراجع تبدى الانشطار مفجعاً… فلئن تعذر الجهر بمطلب التقسيم فإن الانقسام النفسي بات يعلن عن نفسه بمختلف اللهجات والأعلام والشعارات والأصوات، سواء منها تلك التي تنطق عن الهوى، أو تلك المساقة بالغريزة إلى مكمن الخطر، أو التي تعمد إلى إحراج الآخر باستفزاز مشاعره إذا ما عجزت عن إقناعه بمنطق مصالحه وضرورات حياته.
وحدها الدولة تبقى المرجع الصالح،
ووحده الحكم هو المسؤول عن وقف هذا التدهور الذي يتهدد الوحدة، ووحده هو صاحب الحق الشرعي بأن يتحرك فيقرر ويواجه الجميع، من غير أن يداري المخطئ أو يجامل المتهوّر أو يتهيّب الخوف من الفتنة فيلجأ إلى المسكنات التي فات أوانها ولم تعد تنفع في وقف التدهور أو لجم الانحراف.
ليست هذه دعوة إلى الرد الأمني، فالبندقية ليست علاجا، والدولة ليست شرطياً أو قوة قمع… لا سيما متى اختلطت المشاعر بالغرائز، والمصالح بالعصبيات، والعواطف بحسابات الربح والخسارة سياسياً (وماليا في بعض الأحيان).
لا مجال لمزيد من الانتظار أو المداراة بينما الدعاة إلى »الحوار« يرفعون أعلامه على أسنة رماحهم هذه الأيام.
ولا مجال للتوهم أو الافتراض أن المعنيين لم يكونوا يقدرون خطورة التعارض بين المواقف، ويرون فيه نوعا من الترف الفكري أو استدراج العروض السياسية… إن صيحات الاستنفار الطائفي تدوي الآن ويتردد صداها داخل الجامعات والمدارس والبيوت وسيارات النقل العام وإدارات الدولة ومؤسساتها، بحيث وجدت مؤسسة كالجيش أن من واجبها تحصين نفسها ضد الهواء المسموم.
* * *
على الدولة أن تتحرك، وعلى الحكم أن يقرر.
إن الصمت ينذر بأن يتحول إلى تخل عن المسؤولية،
فليس الوجود السوري هو السبب الحقيقي والوحيد للانقسام، وإن كان هو العنوان الذي اختير بعناية من أجل استنفار جميع المتضررين أو المحبطين أو المبعدين أو المستبعدين أو الذين تقدموا بطلب انتساب إلى النظام ثم لم ينالوا من جوائزه ما يطلبون.
ويخطئ الذين يفترضون أن الانقسام يظهر أو يبلور قوة سوريا في لبنان… فأحد مصادر قوة سوريا أنها لعبت في عز الترويج لمشاريع التقسيم والعمل لها الدور الحاسم في ضربها أو منع قيامها، ومن ثم في إعادة توحيد الدولة.
وليس عامل قوة لسوريا »اللبنانية« أن تتبدى وكأنها مصدر خلاف بين اللبنانيين… وليس مكسباً لها أن يظهر »محازبوها« وكأنهم الأكثرية المطلقة.
فقوة سوريا لا تنبع بالأساس من لبنان وحجم مؤيديها فيه.
وليس الوجود السوري في لبنان هو مصدر قوة سوريا فيه، ولا هو البداية أو النهاية في علاقتها باللبنانيين.
ان سوريا قوية بعروبتها، بدورها القومي المميز، عبر تاريخها الحديث، بسيرتها في خدمة قضايا العرب: سوريا المحاربة في فلسطين، الصامدة في وجه العدوان الاسرائيلي المفتوح، الشريكة في قرار الحرب مع مصر، العام 1973، الصامدة في وجه الضغوط الاميركية، المستغنية وهي الفقيرة بإمكاناتها المادية عن القروض التي تسترهن الاوطان، والمتصدية وهي المحدودة السلاح لكل مشاريع الأحلاف الأجنبية كما للمشاريع التوسعية الصهيونية ولمحاولات تصفية القضية الفسلطينية.
وقد اضاف الراحل العظيم حافظ الاسد الكثير الكثير الى رصيد سوريا حتى باتت دولة اقليمية كبرى،
ان اللبنانيين يلتفتون الى سوريا كحصن امان في مواجهة الخطر الاسرائيلي، ولا يقبلون لها ولا هم يطلبون منها ان تكون طرفاً في خلافاتهم الداخلية… بل لقد اخذوا على بعض قيادييها في بعض الحالات شبهة الانحياز لطرف او لجهة، فهي في نظرهم اكبر من ان تنحاز، وأخطر من ان تستخدم، وأقوى من ان تستدرج الى مناكفات محلية، فكيف الى منازعات طائفية مسمومة بل ومدمرة؟!
انطلاقاً من حقيقة ان سوريا أقوى من ان تحتاج الى من يحميها في لبنان،
ومن حقيقة ان الانقسام الطائفي المموه بالسياسي يؤذي سوريا بقدر ما يؤذي لبنان، بل ربما أكثر،
ومن حقيقة ان سوريا اكبر من ان تخاصم فئة او طرفاً،
ومن حقيقة ان سوريا لا تريد ولا هي تقدر حتى لو ارادت ان تنوب عن الحكم في اتخاذ القرارات السياسية المطلوبة لمواجهة الحالة الشاذة القائمة، وان كانت قادرة على المساعدة، بعد اتخاذ القرار، في ضمان التنفيذ،
من هذه الحقائق جميعاً وفي ضوئها تنطلق الدعوة لكي تتخذ الدولة قرارها ولكي يقول الحكم كلمته الفصل… فالانقسام، في بعض جوانبه، هو من حوله وبسببه احياناً، حتى لو كانت دمشق هي العنوان، في الغالب الأعم.
ولعل الحكم لا يتأخر اكثر تاركاً للشارع ان يصير مصدر القرار.
فالدولة مصدر الأمان، والحكم مصدر القرار.

Exit mobile version