طلال سلمان

على طريق رئي سمن قلب خطر ومن داخل سياسة

نادراً ما عرف اللبنانيون اسم رئيسهم (الجديد) مسبقاً،
دائماً كانت هناك قائمة بالمرشحين يتداول الناس اسماءهم، كل وفق هواه او مصلحته او بحسب عصبيته، ووفق معايير متعددة ليس بينها المواصفات الملائكية المطروحة في سوق التندر هذه الأيام،
وأكثر من مرة جاءت نتائج »الانتخاب« في الصباح مغايرة للتوقعات بل للصفقات التي كانت عقدت ليلاً، ووصل الى الرئاسة من لم يكن في »الموقع المتقدم« بين المرشحين، أو لم يكن في »القائمة« أصلاً، فجيء به في آخر لحظة، »بدلاً عن فاقد«،
ليست الديمقراطية بنت ليل، ولا كان »الناخبون« الذين حسموا الأمر وبدلوا في اسم الفائز من بين »النواب« الذين لم يشتهر عن أكثريتهم التعصب للرأي او العفة التي تمنع تبديل القناعات في المفاصل بين اقتراعين،
وكان غموض الموقف، من مختلف المسائل المطروحة، داخلياً وعربياً، شرط نجاح في المباريات الرئاسية، بينما كان »الناخبون« الكبار لا يعطون أصواتهم إلا للواضح في موقفه منهم ومن سياساتهم العربية اساساً، ومن ثم المحلية.
وبين »الناخبين الكبار« يمكن ايراد أسماء فرنسا، بريطانيا (في البدايات) ثم مصر جمال عبد الناصر والولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفياتي، لمرة على الأقل، وإسرائيل، بعد اجتياح 1982، وسوريا دائماً، تارة كصوت معطل وطوراً كصوت مرجح، وفي ما بعد الطائف كأكثرية حاسمة.
كان »الرئيس« يختزل بشخصه السلطة، بل الدولة كلها،
فلقد كانت صلاحياته فضفاضة ومطلقة الى حد كبير، مما يجعله في منزلة بين منزلتي الملك (غير الدستوري) والامبراطور، أما كفاءاته المطلوبة أساساً فتتلخص في قدرته على الهرب الى العموميات في الشؤون كافة، السياسية والاقتصادية، الثقافية والاجتماعية ومسائل الانقسام الداخلي من حول السلطة وتوجهاتها واهتماماتها، والانقسام حول السياسة الخارجية والى أي حد تكون عربية فلا يغضب الغرب، او تكون غربية بما لا يغضب العرب.
وكان ثمة »ناد خاص« ينتظم فيه رجال المال والاعمال والسماسرة ورموز المؤسسة الدينية وسائر المستفيدين من النظام، يقبع في الغرفة الخلفية، في القصر الجمهوري، فيشير عليه »بالمفيد« ويحذره من القرارات الضارة بمصالح الجميع، وأساساً بمصالح »الناخبين الكبار«، وهم أولاً وأخيراً اولو الأمر والنهي!
ولقد تفاقمت أزمة النظام حدة ثم انفجرت به وفجرته، في النهاية، وكان بين اسبابها بالتأكيد ان »الرئيس« أكبر من »الدولة«، او ان صلاحياته تجعل الدولة مزرعة له ولبطانته، واستطراداً لفئة من اللبنانيين، بينما تقف أكثريتهم خارجها تمضغ نقمتها وبؤس حالها وتبحث عن وسيلة للتغيير خارج الديموقراطية الشكلية العاجزة عن الانجاب!
في المرحلة الانتقالية التي اعقبت »الطائف« كان يفترض ان تتم اعادة صياغة للعلاقة بين اطراف السلطة، بما يحقق توازنها بالمعنى الوطني، بحيث تعترف »الدولة« بمواطنيها كافة ويعترفون بدولة قررت اخيرا ان تعتبرهم »مواطنين« لا رعايا.
لكن التجربة لم تحقق النجاح المفترض،
لم تتوسع قاعدة السلطة عبر »الترويكا«، ولم تصبح اكثر تمثيلا للناس، بل هي صارت بثلاثة رؤوس، مما تسبب في تعطيل المؤسسات الدستورية والحياة السياسية بمضامينها الديموقراطية، واستطراداً بالدور المفترض »للنظام الجديد« في فتح الآفاق امام قدر من العدالة (الانماء المتوازن) وحسم المعضلات الاقتصادية والاجتماعية في بلد هشمته الحرب وهمشت دوره عربياً، وشطبته او كادت كنموذج لتجربة انسانية ناجحة ويمكن اعتمادها دولياً.
في ظل »الترويكا«، وبفضل الممارسات، ونتيجة لاندحار سياسات وغياب رموز للنظام القديم، من دون تقديم البديل الناجح، استمرت الطائفية تنهش من لحم »الدولة« سيما وقد تعززت بالمذهبية المستشرسة لجني الغنائم، فصار التعرض للترويكا، اي للرؤوس الثلاثة الذين اختصروا في اشخاصهم المؤسسات والمطالب الشعبية، ضربا من اثارة الفتنة.
وكان تعزيز »الترويكا« ب»الثوابت« حلا مرتجلا، واضطرارياً في البداية، لكنه سرعان ما اعتمد كنهج، مما عقَّد مشكلة السلطة وكشف عجزها عن مواجهة مشكلات البلاد، وعن صياغة برنامج لعهد جديد فعلاً، يصفي رواسب الحرب الاهلية ويدخل باللبنانيين الى السلم الاهلي عبر مؤسسات غير معطوبة او مخربة بالغرائز الطائفية او بالمصالح الشخصية، او بالنفاق السياسي الرخيص الذي حل تدريجيا محل »غموض الموقف« في »العهد القديم«.
والاهم: يدخل بلبنان الى دوره العربي، وهو معافى وقادر على المساهمة بما يتناسب مع شرف المقاومة للاحتلال الاسرائيلي فيه، وبما يعزز صمود سوريا، لتحقيق مطالبه الوطنية، بدل ان يكون عبئا عليها، يثقلها بمشكلات سلطته المرتبكة ويصورها كقوة تدخل لا كضمان لوحدته ولدوره الطبيعي عربيا.
أين تقع رئاسة العهد الجديد؟!
يتذبذب اللبنانيون بين الحدين الاقصيين: مرة يفترضون في رئيسهم الجديد قدرات خرافية، وينتدبونه لدور »المنقذ« القادر على حسم مشكلاتهم جميعا، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الخ… ومرة اخرى ينظرون إليه على انه مجرد »ثالث« مكمل للطرفين الثابتين في »الترويكا« القائمة، هو اضعف الثلاثة ليس فقط بحكم »محدودية صلاحياته«، بل اساسا بسبب عجز النظام نفسه عن تقديم الحلول الجذرية لمشكلاته البنيوية (التمثيل السياسي قانون الانتخاب. قانون الاحزاب. التقسيم الاداري الانماء المتوازن المأزق الاقتصادي المعضلة الاجتماعية بمختلف وجوهها من كلفة الحياة الى هوية التعليم الى عودة المهجرين الى اعادة بناء التوازن الوطني داخل المجتمع الخ…).
وفي الحالين فإن الرئيس الجديد يصبح خارج الممكن وخارج الواقع.
الأغرب ان ثمة من يفصل بين الرئيس وبين الظروف السياسية التي تعيشها المنطقة، في ظل الطور الراهن للصراع العربي الإسرائيلي، بكل تداعياته المنطقية ونتائجه العملية على الأرض، وهي ثقيلة (يكفي التذكير بالعرض المشروط لتنفيذ القرار 425، والاثارة المشبوهة في توقيتها لمسألة جزين، وبمحاولات التخريب الإسرائيلية..).
بل ثمة من يفصل بين الرئيس وبين السياسة، وكأننا بصدد اختيار رئيس لجمعية خيرية، او رئيس شرف لناد رياضي، او مجرد حارس او حكم في الصراع بين اطراف السلطة الآخرين!
لن يهبط الرئيس الجديد بالمظلة، من خارج السياسة، ومن خارج لحظة الخطر التي تعيشها المنطقة،
بل هو لا بد ان يجيء من قلب الخطر، ومن قلب الضرورة الى مواجهته، وكذلك من قلب الحاجة الى انهاء المرحلة الانتقالية والدخول في مشروع جدي للمباشرة أخيراً في بناء دولة لمواطنيها وبمواطنيها.
وعجيب أن يقفز الضالعون في فضائح النظام القديم والمستفيدون من خيرات النظام الجديد، من فوق الواقع البائس، ليصوروا ان وصول مرشح معين سيتسبب في هدم »جمهورية افلاطون« بينما وصول آخر سيكفل الوصول اليها في غمضة عين وبطريقة الولادة بلا ألم!
لا احلام في »الانتخابات«..
ولا تنجب الاحلام رؤساء، بل تنجبهم الظروف التي تعيشها بلادهم وتوازنات القوة التي تحكم حياتهم السياسية.
ولسنا نريد أكثر من رئيس لجمهورية الخطاة… في عهدها الجديد!

Exit mobile version