طلال سلمان

افتحوا قلوب جزينكم تعود اليكم

لم تغب جزين يوماً عن ذاكرة الوطن، ولعلها في حالات كثيرة كانت ترمز إلى قضيته: صموده في وجه الاحتلال، واندفاعه في المقاومة إلى حد الاستشهاد، وحرص أهله على أهله إلى حد التوحّد الصلب، برغم كل المحاولات الخبيثة والمحمومة لقلب المعايير والمقاييس والمفاهيم بحيث يغلب »الطائفي« على »القومي« و»المذهبي« على »الوطني«.
ليست لجزين قضية خاصة.
جزين هي قضية لبنان كله، واللبنانيين جميعاً، ومعهم سوريا أساساً، ثم كل الصامدين من العرب أمام الضغوط للاستسلام، مسوقين بوهم أنه »السلام«.
جزين التي اختلق لها الاحتلال الإسرائيلي وضعاً ملتبساً وقابلاً للاستثمار كلما أراد إشغال اللبنانيين بأنفسهم عنه، أو أراد إيهامهم بأنه الضمانة ضد الاقتتال الأهلي!
من الشعار الخبيث »جزين أولاً« إلى الإصرار على تقديم جزين دائماً منفصلة عن جنوبها، عن المحتل من أرضه، كما عن المحرَّر، وعن محيطها كله بمسلميه (شيعة وسنة ودروزاً) ومسيحييه (موارنة وكاثوليك.. وبروتستانت أيضاً)..
ومن محاولة إرباك الحكم في لبنان من خلال إظهاره عاجزاً عن دخول جزين أو التدخل في ما يجري لها وما فيها، إلى ادعاء الاحتلال الإسرائيلي أنها ليست من ضمن »الشريط«، وبالتالي فهو ليس مسؤولاً عنها، بل هي في عهدة الميليشيا التي استولدها هناك لتكون قناعه فلم تنفع يوماً إلا في كشفه وتقديمه للعالم متلبساً.
ولقد صمدت جزين للاحتلال فكيف تكون عودتها إلى حضن أهلها، إلى قلب دولتها، خطراً عليها؟!
مَن يجرؤ على سد طريق عودة »الابن الشاطر« إلى بيته؟!
من، من اللبنانيين، لا يتشهى لحظة سقوط الاحتلال، لكي يستعيد كل منهم توازنه، ولكي يستشعر بغبطة غامرة يخالطها قدر من الزهو: لقد أُجبر الاحتلال على الانسحاب، ولم يستطع برغم كل مكائده وشراسته ان يفرض على لبنان اتفاق إذعان جديداً!
وبالتأكيد فإن المقاومين البواسل الذين يبذلون الدم سخياً من أجل التحرير، يريدون عودة الجنوب الى وطنه بأهله كما هم، وكما كانوا دائماً وكما سيبقون،
لا طائفية في التحرير، وليس ثمة طائفة تستطيع ادعاء الطهارة، ومن باب أولى انها لا تستطيع محاسبة الطوائف الاخرى.
من تعامل مع الاحتلال، بإرادته أو برغبته، بلا دين، وحسابه متروك لدولته، وليس لأية جهة اخرى.
أما المتمسك بدينه، بل المؤمن إجمالا، فإن له من دينه رادعاً عن التعامل مع قاهر إرادته ومحتل إرضه ومخرب دياره، والمفرق بينه وبين اخوته، والمتسبب بإبقاء الكنائس (والمساجد) فارغة من المصلين، لأن الرعب او العوز، او كليهما معاً، أجبرا الاهالي على مغادرة بيوتهم (قبل تهديمها أحياناً، وبعد التهديم غالباً) وتعيين قلوبهم حراساً فيها ولها.
جزين في الذاكرة، تهجع حلماً بل ومصدراً للحلم، تماماً كما هي في الواقع الذي يباعد بيننا وبينها ولا يبعدها عنا، لوحة تختزل جمال لبنان.
جزين هي القصيدة الخضراء، وهي الخميلة التي تحتضن العشاق فتظللهم صنوبراتها التي تنتظم شطراً خلف شطر، اثر شطر، محافظة على موسيقى القافية على وزن هدير الشلال.
جزين في الأسر، كما كل مدينة او بلدة او دسكرة او مزرعة، هي لبنان كله، وهي في حريتها مدينة في لبنان.
لا يغير الاحتلال موقع جزين في القلب، ولا اي قرية ترزح تحت أثقال مهانته، وليس تحررها نصرا لطائفة او مذهب او جهة.
انه نصر لها كما للنبطية وكفررمان وجرجوع وجباع، ولصيدا كما لجون وشحيم وبسابا وسائر الاقليم، ولباتر ونيحا وبعدران والمختارة وسائر الشوف، ولعين التينة ومشغرة كما لسائر البقاع بغربه وشماله وقلبه الذي فيه زحلة امتدادا حتى »شام الله في ملكه«.
افتحوا القلوب: ها هي جزينكم تعود إليكم، بمدارسها وكنائسها والورش التي أنتجت وتنتج هدايا الملوك من السكاكين المرصعة بالعاج، وشلالها والمقاهي، وفنادقها الجديدة والقديمة منها والتي كانت تحمل بعضاً من هويتها الاصلية: »فندق فلسطين«، »فندق الأهرام« و»فندق مصر«.
افتحوا القلوب لجزين.. وبعدها لسائر أهلنا في الأسر، الذين علينا ان نعوضهم ما تحملوه في انتظار مجد التحرير.

Exit mobile version