طلال سلمان

على الطريق 4 حزيران 1982 – 4 حزيران 1984 صانع النصرين!

في أواخر الصيف من العام 1961، تلاقينا على غير موعد مجموعة من المحررين الصحافيين والحزبيين والمواطنين العاديين في “نظارة المحكمة العسكرية” ببيروت،
كانت التهم الموجهة إلينا متباينة في درجة الخطورة، ولكنها جميعاً تنطلق من كوننا “خطراً” على النظام، و”متآمرين” نهدد سلامة الكيان اللبناني الفائق القداسة،
ذات يوم أدخل علينا “موقوف” جديد، شاب في نحو العشرين من عمره، رقيق الجسم رقيق الحال رقيق الحواشي دقيق السمات وفي عينيه حزن أجيال وفي الصدر خزين من القهر لا ينضب وفي اللهجة يأس قاتل،
وحين “استنطقناه” على عادة المساجين، تردد طويلاً ثم أبلغنا “جريمته” فلم نصدق حتى شهدنا وقائعها بأنفسنا في قاعة المحكمة، وأمام منصبه القاضي المثقل الكتف بالنجوم والأكاليل والسيوف المذهبة!
القصة بسيطة: فصاحبنا جنوبي، وهو مواطن من إحدى قرى الشريط الحدودي، تملك عائلته كرم عنب يقع قريباً من ذلك الشريط المقدس.. ولقد حدث إن غزت الثعالب الكرم وبدأت بالتهام “الموسم” من العنب، فقررت العائلة إقامة خيمة أو عرزال وعهدت إلى بكرها بأن يتولى حراسة جنى العمر!
وهكذا صار صاحبنا يقصد مع المغيب كرمه، وقد تنكب بندقية صيد “9 ميلي” ليحرس الكرم من غارات الثعالب.
وذات ليلة، تكاثرت الثعالب فلجأ صاحبنا إلى سلاحه، وأطلق في الهواء طلقة من بندقية الصيد، كانت كافية لأن تهرب الثعالب ويأتي الجند ليقتادوه مخفوراً!
ومن قريته إلى مركز القضاء، ثم إلى مركز المحافظة، ثم إلى المحكمة العسكرية في بيروت، عاش صاحبنا أياماً من العذاب والهوان والتعاسة ثم ألقي به في “النظارة” في انتظار حكم يتناسب مع جريمته الخطيرة المتمثلة في “إزعاج” الأمن الإسرائيلي وخرق الهدنة!
وحين صدر الحكم تبدت صورة الجريمة الحقيقية مهولة: لقد قضى الحكم بسجن صاحبنا عشرة أيام وتغريمه مصاريف الدعوى فإذا عجز احتسبت له أيام السجن بواقع ليرتين عن كل يوم!
وكان علينا، نحن الموقوفين في انتظام أحكام الإعدام (!) أن نجمع له بعض القروش لسداد الغرامة حتى لا ينام مزيداً من الليالي في السجن، باعتبار إنه مس لا يمس ولم يدرك إن للثعالب من يحميها ، شأنها في ذلك شأن “الحدود” مع العدو الإسرائيلي!
نروي هذه الحكاية اليوم بالذات ، 4 حزيران 1984، وفي الذكرى الثانية للاجتياح الإسرائيلي للبنان، للمساعدة على تبيان المسافة بين ما كنا فيه وما صرنا عليه، ودائماً انطلاقاً من الجنوب، ومن طريقه، تعاطي الدولة معه أرضاً وشعباً وطموحات!
وبالتأكيد فإن قدراً كبيراً من هذا الزخم البطولي الذي يواجه به أهلنا في الجنوب (وكذلك في البقاع الغربي وراشيا وبعض الجبل) العدو الإسرائيلي إنما يتضمن رغبة في الانتقام من “الدولة” التي كانت تتولى تحطيمهم وتدميرهم معنوياً (واقتصادياً وسياسياً) ليصيروا أشبه بالشلو، أو بالشيء، بما يطمئن العدو الإسرائيلي تماماً ويجعله يتكرم على النظام وأهله بشهادة حسن السلوك المطلوبة!
وبالتأكيد أيضاً فإن العديد من الأنظمة العريبة تفعل بشعوبها ما فعلته دولتنا مع “صائد الثعالب” في كرمه، وأفظع بكثير، تقرباً من إسرائيل وطلباً لشهادة حسن السلوك ذاتها ممهورة بالخاتم الأميركي ذي النسر، وهو أعلى الدرجات واسماها!
ونعود إلى 4 حزيران، بل إلى العصر الحزيراني الذي بدأ في العام 1967، أو ربما في العام 1965، أو ربما في العام 1961، إذا ما استذكرنا “الانفصال” والأسباب التي أدت إليه.
في 4 حزيران 1982 بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان (والقوى الحية في المشرق العربي) بضربة جوية موجعة استهدفت المدينة الرياضية في بيروت.
اليوم، وبعد سنتين حفلتا بالكثير من الآلام والعذابات والشقاء، وبالكثير الكثير من الموت والدمار، نستطيع القول بثقة إن التاريخ سيذكر في واحدة من صفحاته الأكثر نقاء إن لحظة بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان هي ذاتها لحظة بداية النهاية للمشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، وسيفرد التاريخ صفحات لذلك المواطن الجنوبي الطيب، البسيط المقهور، بالفقر وبالمتسببين في إفقاره، وبالدولة وأصحاب الدولة ومحتكري خيراتها والنفوذ فيها، وكيف استطاع أن يلعب دوراً حاسماً حيث عجزت الجيوش وفشل الجنرالات اللامعة صلعاتهم الكيبرة كروشهم الخامدة عقولهم برغم لمعان النجوم والسيوف الذهبية على أكتافهم ، وهي مماثلة على أي حال لتلك التي خطفت أبصارنا في المحكمة العسكرية ببروت قبل سنين!
ما أعظم ما تحقق على امتداد السنتين الماضيتين، من غير أن ننسى قسوة ما تحمله الناس وما يتحملونه حتى الآن ، كضريبة لا بد من دفعها إذا أردنا إنجازاً بحجم الحلم أو أبهى.
التفت إلى حيث كنا وإلى حيث نحن الآن، وأرصد التحولات التي نقلتنا من “خانة” السماسرة وأشباه الرجال إلى مرتبة “الشعب البطل” بحسب توصيف الأعداء قبل الأصدقاء.
لقد استطاع هذا الشعب الصغير، في هذا البلد الصغير، الممزق بالحرب الأهلية، المغرق في المستنقع الطائفي، أن يحقق منجزات هي في حجم المعجزات، ويجب أن نستذكرها احتراماً لشهادة شهدائنا ولنضالات مناضلينا المجهولي الأسماء والسمات، الواضحة آثار أعمالهم على مسار الأحداث في لبنان والمنطقة..
بين تلك المنجزات:
1 – إن المواطن في لبنان عموماً، وفي الجنوب (والبقاع الغربي) بخاصة، قد استعاد اعتباره لنفسه واستعاد إيمانه بقدراته غير المحدودة، فاندفع بلحمه الحي، بصدره العاري، بالحجارة والعصي، بالزيت المغلي، وبالسلاح الأهم: بالوعي يقاوم ويتصدى ويحبط أهداف أقوى آلة عسكرية في المنطقة، وإحدى الأقوى، في العالم، خصوصاً إذا ما استذكرنا قوى الدعم المفتوح التي تساند الكيان الصهيوني وتمكنه من تحقيق هيمنته على المنطقة.
2 – إن المواطن في لبنان عموماً، وفي الجبل وبيروت وضاحيتها النوارة خاصة، قد استطاع برغم جراحه وآلامه وعذاباته أن يسقط مشروع الهيمنة، وأن يفرض تعديلاً في نهج الحجم بحيث عاد لبنان إلى موقعه الطبيعي في قلب أمته وفي قلب حركة نضالها من أجل غدها الأفضل.
3 – إن المواطن في هذا البلد الصغير والممزق والمشوه بآثام الحرب الأهلية وخطاياها، قد استطاع حين توفر له الحد الأدنى من دعم أشقائه العرب أن يسقط اتفاق 17 أيار، وهو إنجاز قومي سيكون ماثلاً في صورة المستقبل العربي (وليس الإسرائيلي) لأي قطر عربي..
ولأن شعب لبنان، وجنوبه خاصة، قد حقق هذا الإنجاز القومي الباهر، فإنه استحق أن يدخل قلب كل عربي ووجدان كل عربي، وأن تحتل صور شهدائه وشهيداته من نزيه القبرصلي إلى الشيخ راغب حرب، وصور قراه الباسلة من جبشيت إلى الحلوسية إلى دير قانون النهر ومعركة والزرارية وجويا وعدلون والصرفند، إضافة إلى صيدا المجيدة وكامد اللوز والقرعون، جدران غرف النوم وذاكرة الأطفال والفتية والشبان والكهول والشيوخ في أقطار العرب كافة.
ليست هذه كلمات عزاء في ذكرى مريرة.
لقد صنع رجالنا ونساؤنا انطلاقاً من الجنوب وصولاً إلى بيروت، غداَ آخر غير الذي أراده لنا العدو الإسرائيلي، واجتاحت أرضنا وصدورنا دباباته لتصنعه بالقهر والقسر وتوظيف قمع السنين الماضية،
لهذا كله فليست هذه الذكرى ساعة للحزن واللطم وإطلاق العنان للغة الهزيمة كي تلعن أمة العرب والشعب وتعلن اليأس المطلق بادعاء “إن لا فائدة” و”لا أمل” ولا رجاء يرتجى!
إنها ساعة لإعداد النفس للمراحل المقبلة، لمزيد من المعارك والمواجهات المضنية والصعبة والقاسية والمؤلمة، ولكنها جميعاً مفروضة علينا ولا مفر منها إلا بالاستسلام للقدر الإسرائيلي (خارجياً) وللهيمنة الفئوية الشنيعة (داخلياً).
إن نضال شعبنا في الأرض المحتلة، قد ساعدنا أجل المساعدة في ضرب مشروع الهيمنة، وضرب هذا المشروع الطائفي والفئوي قد عزز صمود أهلنا هناك وأكد ثقتهم بنصر بهي آت،
ومن الجريمة أن نضيع ذلك كله بحجة التعب أو بذريعة العجز عن إكمال الطريق.
ويا الجنوب،
يا بيروت والضاحية النوارة والجبل والبقاع الغربي،
يا المرج المخضل بدماء الشهداء البررة الذين تساقطوا وهم يصدون الهجمة المزدوجة ويوفرون لنا شرف النصر،
يا شقائق النعمان المنتثرة كما حمرة خدود الصبايا والورد المجرح بليل السهد والقلق على الحبيب، والحاملة الآن أسماء قرانا المجهولة إلى كل وجدان،
يا البيوت المرشومة الصدر بأوسمة الفخار بأنهم “لم يمروا” و”لم يستمروا” و”لن يستمروا”،
يا الفتية الذين قتلوا الثعلب وطردوا نواطير حدود الغصب والقهر والازلال اللاغي لإنسانية الإنسان يا البساتين المحروقة أشجارها، المقلوبة تربتها، المدعوسة ثمارها المطارد فلاحها، والمنتشر أريج زهر ليمونها وعنبرها في كل ناح، برغم كل ما كان.
يا الزارع الأقوى من دبابة والصدر الأقوى من مدفع،
يا الصبية الندية الجبين، المزهرة الخدين، المعششة عيونها نجوماً وأقماراً ووعداً وإصراراً على اصطناع الغد الأفضل وحمايته، بالزيت المغلي أو بالاستشهاد متى لزم الأمر،
يا أصحاب النصرين،
مزيداً من الصبر، مزيداً من الصمود، مزيداً من البذل،
فالفجر قاب قوسين أو أدنى، يطل جليلاً جميلاً موشحاً بالأحمر القاني الذي بذله من شرف بالشهادة،
لقد تمكنا أخيراً من وضع نقطة النهاية لعصر 5 حزيران،
وعلينا أن نبدأ الآن “الجهاد الأكبر” لصنع عصرنا نحن… العصر الذي يليق بشوقنا إلى الحياة، إلى الوطن، إلى الأم والأرض والحبيبة، والطفل والجنين الآتي،
ولسوف نصنعه، بشهادة هذا الذي كان بين 4 حزيران 1982 و4 حزيران 1984.
المهم، ألا تهتز الصفوف، وألا تضعف النفوس ولا يتخطفنا الوهم والركض وراء سراب أكاذيب الحاكمين واللحديين وأشباههم!

Exit mobile version