طلال سلمان

على الطريق 23 يوليو: أبعد من الذكرى

على امتداد سنوات طويلة حفلت بكل خطير من الأحداث ومثير، كانت الأمة العربية تنتظرهذا اليوم لتحيي مع بطله الذي غدا بطلها ذكرى ذلك الفجر الأغر: 23 يوليو (تموز) 1953، ولتسمع منه، ولتبدأ معه انطلاقة جديدة في رحلة العبور المجيدة من ليل التخلف والقهر إلى مستقبل الكرامة والتقدم، بالثورة، وليس إلا بالثورة،
اليوم، وبعد 22 سنة، تجد الأمة نفسها في وضع مشابه لذلك الذي فرضت ضروراته الحركة في 23 يوليو، ثم صنعت التحديات التي اعترضت الحركة دور البطولة لجمالعبد الناصر، ثم أكسبته المواجهة الشجاعة لهذه الضرورات والتحديات مجتمعة ملامح القائد التاريخي وسماته المميزة.
واليوم، تجد الأمة نفسها مدعوة – من جديد – إلى الثورة: الثورة على ذاتها، على الترهل والتبلد والاستكانة التي تكاد تشل قدرتها على الفعل، الثورة على الأوهام التي روج لها المتعبون حتى كاد يسود منطقهم المتخاذل القائل أن كفانا ثورات وثورية فقد أدينا قسطنا للعلى وحان الآن وقت النوم!
لماذا؟ واين كان القصور؟ ومتى وقع الخطأ؟ ومن كان المتسبب في تجميد حركة 23 يوليو وإفقادها القدرة على التجدد، وبالتالي على الاستمرار في قيادة الحركة الثورية العربية؟
لسنا هنا في مجال المحاسبة والمؤاخذة، فالقضية أكبرمن الأشخاص والأسماء والمناصب.
على إن مراجعة سريعة للتحولات التي طرأت على هذه الحركة يمكن أن تساعد على تحديد مصادر القوة ومكامن الضعف في هذه التجربة العظيمة الغنية، بالصواب والخطأ، بالسلبيات والإيجابيات، تماماً ككل حركة تتصدى لإعادة صياغة الحياة.
وتبرز على الفور ثلاث حقائق اساسية تحكمت بمسار حركة 23 يوليو وأعطتها زخمها الثوري الذي أودى بعروش وأحلاف وعهود ورئاسات وغير الخريطة السياسية لواحدة من أهم بقاع الأرض…
هذه الحقائق الثلاث هي على التوالي:
1 – العروبة كانتماء ثوري، بقضيتها النضالية: الوحدة.
2 – فلسطين باعتبارها مسألة مركزية في النضال العربي المعاصر من أجل التحرر الكامل وتكريس السيادة القومية فوق الأرض العربية،
3- الطموح إلى التقدم وحتمية الاختيار الاشتراكي في الوطن العربي، كما في العالم الثالث برمته، لضمان الوصول إلى غد أفلضل.
فالعروبة، كانتماء ثوري، هي التي حولت 23 يوليو من انقلاب عسكري مصري إلى حركة ثورية عربية، وحولت جمال عبد الناصر من ضابط متسلط على الحكم ومتهم بالدكتاتورية إلى رائد للقومية العربية وقائد للمسيرة الثورية.
وكانت حركة 23 يوليو تكتسب من الوهج الثوري والقدرة على الفعل بمقدار ما تؤكد انتماءها العربي وجدارتها بقيادة حركة الثورة العربية.
وعبر تجربة 23 يوليو ومعها وصلت الجماهير إلى تحديد الفروق بين الثورة والانقلاب العسكري: فالحركة تقترب من صورة الثورة بمقدارتأصل انتمائها العربي، وترتد إلى موقع الانقلاب إذا ما استسلمت لرياح الإقليمية،
هي ثورة عندما تكون عربية المنطلق والتوجه،
وهي انقلاب عندما تكون قطرية، أياً كانت ذرائع التقوقع داخل القطر المعني، بما في ذلك ذريعة “دعونا نبني لكم بروسيا العرب”!
وهكذا فإن التقدم نحو العروبة، نحو الوحدة، هو اندماج في الثورة،
أما سيادة الاتجاه الإقليمي، ولو تحت ستار شعارات مزايدة في وحدويتها، فتعني فوراً الخروج من معسكر الثورة.
وبهذا المعنى فالتوجه الوحدوي لا بد أن يستتبع الصدام بالاستعماروالرجعية والصهيونية وحربتها المحلية إسرائيل.
واستبدال التوجه الوحدوي بالتضامن العربي الرسميهو هرب من الصدام باللجوء إلى البرقع الذي طالما أسدلته الرجعية على انفصاليتها وموهب به عداءها للثورة. ومن يغادر موقع الوحدة بحجة أنه ينشد تضامناً عربياً أوسع إنما يؤكد خروجه على العروبة، كانتماء ثوري، وعلى الوحدة كقضية نضالية، وينتهي سباقاً على باب بعض القصور الملكية: قلاع الثورة المضادة.
وكل حركة انقلابية ناقصة الإيمان الوحدوي هي، بالتأكيد، رصيد إضافي للثورة المضادة.
كذلك فكل تنظيم سياسي يحاول الفصل بين الوحدة والثورة، وبين الوحدة والاشتراكية، هو رصيد إضافي للانفصالية، وحركته ستوظف بالنتيجة ضد الثورة ولصالح أعداء الأمة العربية.
ونأتي إلى فلسطين..
إن غياب فلسطين، فلسطين العربية، فلسطين القضية النضالية، فلسطين الصدام مع الصهيونية والاستعمار والإمبريالية، ينفي تماماً شبهة العلاقة بين أي حركة انقلابية والثورة بكل أبعادها، الوحدة، الاشتراكية، الحرية..
وباسم فلسطين كان ذلك اليوم الأغر في مصر، قبل 22 سنة.
وعلى دروب فلسطين اكتسبت حركة 23 يوليو صفة “الثورة الأم”.
وبسبب فلسطين، المسألة المركزية في النضال العربي المعاصر، كان العدوان عام 1967، لتصفية حركة الثورة العربية التي كانت قد وعت تماماً حقائق العصر وفرزت أصدقاءها من خصومها.
وهكذا يبدو جلياً أنه عند ضفة قناة السويس يقرر حاكم مصر موقعه وهويته: فالاندفاع نحو الشرق، نحو فلسطين، نحو الصدام مع إسرائيل بكل ما تمثله من ارتباط عضوي بالاستعمار والإمبريالية، يعطيه علىالفور الحق المطلق بقيادة كل العرب.
أما الوقوف عندها، أو الانكفاء الإقليمي إلى الخلف، فلا يحرمه فقط شرف القيادة وإنما يخرجه أيضاً من معسكر الثورة.
وتبقى مسألة التقدم وحتمية الاختيار الاشتراكي كقضية صدامية ثالثة مع الإمبريالية والاستعمار والرجعية.
فمع أول خطوة على طريق التنمية، التنمية الحقيقية التي تتوجه إلى الأغلبية الساحقة إلى طوابير المسحوقين والمعدمين، إلى الشعب، يقع الصدام فوراً مع كل القوى المعادية للتقدم في الداخل والخارج،
ومن هنا يكتسب الحل الاشتراكي حتميته: لا الانفتاح يجيء بمليارات الدولارات اللازمة للتنمية، ولا الدول الصناعية الرأسمالية تبيعك ولو بالثمن التكولوجيا، ولا الفعاليات الاقتصادية المحلية، من صناعيين ورأسماليين وإقطاعيين يقبلون مجرد المناقشة حول الدخول وكيفية توزيعها، والأرباح ولمن تذهب، والاستثمارات وكيف توظف لتنهض بالبلاد ككل بدل أن تظل خيراتها وقفاً عليهم والفقر قدر الأكثرية الساحقة من “مواطنيهم” المستضعفين في الأرض.
على ضوء هذه الحقائق الثلاث مجتمعة تتضح صورةما حصل في مصر، وفي المنطقة العربية، يوم 23 يوليو 1952 ، ثم عبر المسيرة الناصرية الطويلة، ثم في الفترة التيأعقبت رحيل جمال عبد الناصر.
فالحركة لم تكتسب الهوية الثورية بمجرد خلع فاروق وإعلان الجمهورية.
بل هي انتزعت هذه الهوية، باعتبارها حقاً مشروعاً لها، عبر صدامها – عن الأمة العربية كلها وكقائدة لها – مع قوى الاستعمار والصهيونية وأهل الردة.
فبين 1952 و1955 كان ما يجري فيمصر يصنف على أنه انقلاب عسكري طابعه العام وطني إصلاحي،
لكن هذا الانقلاب تحول عبر القرار المجيد بتأميم قناة السويس، عام 1956، تم عبر الصدام الدموي مع الاستعمار وإسرائيل على طريق فلسطين، تحول عبر هذا الصدام الذي اتخذ منذ اللحظة الأولى بعده القومي الأصيل، إلى مشروع ثوري عربي،
وبفعل هذا الزخم الثوري، القومي أساساً، تقدمت حركة 23 يوليو على طريق الثورة نحو الوحدة عام 1958.
ولأنه لم يرتد أثرضربة الانفصالن عام 1961، إلى التقوقع الإقليمي، استمر جمال عبد الناصر زعيماً لكل العرب،
ولأنه حسم في اختياره، بقرارات التأميم المجيدة، ثم بالميثاق، فاعتمد الحل الاشتراكي طريقاً إلى التنمية الحقيقية، والتنمية التي تحقق طموح الثورة إلى تغيير هيكلية المجتمع وصنع إنسان جديد، تكريس دورجمال عبد الناصر كقائد للمسيرة الثورية العربية.
بالوحدة، بفلسطين، بالاشتراكية، تحول انقلاب الضباط الأحرار في مصر، قبل 22 سنة، إلى حركة فائدة للثورة العربية.
لكن مصربغير تلك الأقاليم الثلاثة تكون مصراً أخرى، وتصبح ذكرى 23 يوليو مجرد حفل يقام على شرف وجهاء ذلك العصر الذي اكتسبت 23 يوليو قيمتها أساساً من كونها عملت لإنهائه، بكل قيمة ومفاهيمه ورموزه البشرية المتخلفة.
ولقد مات جمال عبدالناصر،
لكن حركة الثورة العربية باقية وقادرة بالتأكيد على أن تصنع يوماً مجيداً آخر، وعلى أن تعطي قيادة تاريخية جديدة، وعلى أن تسترد مصر فتجعلها – كما قدرها – قلعة للنضال العربي.
ولسوف تعطي اليوم والرجال،
ولن تتعطل المسيرة … برغم المؤامرات والانحرافات وتعب الانقلابيين القدامى!

Exit mobile version