طلال سلمان

على الطريق 23نيسان 69 – 21 أيار 87 “44 منصوراً” على اتفاق القاهرة!

.. وانتدبوا من كل قبيلة رجلاً، ثم حملوا على الورقة الممهورة بالدم وهموا بها فتناوبتها سيوفهم حتى سقط “الاتفاق” وألغي إلغاء واعتبر وكأنه لم يكن. ورجعوا إلى قومهم فرحين مستبشرين بالنصر المؤزر، مطمئنين إلى أن أحداً لن يثأر له، فهو – كالقضية – يتيم، ثم إن دمه قد تم توزيعه على قبائل الطوائف فلا يعرف له غريم يطالبهم به!
أربعة وأربعون كانوا، والرئيس هو الخامس والأربعون، ووزير واحد حضر فعوّض غياب الحكومة المستقيلة والمعلقة استقالتها في الهواء في انتظار أن يقرر رئيس الرؤساء ما يراه في الأمر الجلل.
خمسة تقدموا بالاقتراح بالتواطؤ مع الرئاسة ومع الأربعين الآخرين.. وفي الصباح تم ذلك الأمر الذي دبر بيل، وكرجت صرخات الترحيب بتحرير لبنان من اتفاق القاهرة بما أعاد إليه سيادته غير منقوصة وترابه الوطني وقد تطهر من رجس الاحتلال، فحمداً لله على نعمه وللمجاهدين على فضلهم العظيم!
هكذا، بهذه البساطة، طويت صفحة من تاريخ النضال الوطني والقومي في لبنان ودنيا العرب،
فبين 23 نيسان 1969 و21 أيار 1987 دار الفلك باللبنانيين والفلسطينيين والمصريين، أطراف اتفاق القاهرة، كما بسائر العرب دورة كاملة شالتهم فحطتهم في عالم آخر لم نعرفه قبلاً ولم نألفه ولم نتصور إننا سنكون فيه في أي يوم.. وللتغطية، وما أبشع الاختيار، قررنا أن نلغي مع “اتفاق القاهرة” اتفاق القهر والعار المسمى اتفاق 17 أيار، فشر ذا بخير ذاك وكان الله يحب المحسنين!
23 نيسان 1969
لشد ما اختلف الزمان وتبدل، ولشد ما تغير لبنان وتشوه، فلا شيء فيه الآن كما كان، ولا أحد كما كان وحيث كان، ومن الطبيعي بالتالي أن يسقط اتفاق القاهرة الموقع في 30 تشرين الثاني 1969 برعاية جمال عبد الناصر وزخم حالة النهوض التي أعقبت هزيمة 5 حزيران 1967 والتي أنبتت ظاهرة الكفاح المسلح الفلسطيني.
حتى الساحة التي أعطيت اسم ذلك اليوم لتخليده وتخليد الشهداء الذين سقطوا هناك توكيداً لعروبة لبنان والتزامه بواجبه القومي، تبدلت واندثرت معالمها القديمة المرشومة بأوسمة الفخار القومي!
الساحة، الآن، كالقضية: أطرافها مسرح للباعة المتجولين وللشارين الباحثين عن بضاعة رخيصة، وقلبها مغيب تحت جسر من الاسمنت المسلح شكله شكل الضريح، وقد صيرته الحرب المفتوحة ضريحاً مفتوحاً للعابرين والراكضين وراء الرغيف..
أما القضية فقد تاهت بها الدروب وسدت في وجهها المعابر وترصدها القناصون والسماسرة والقيادات المنحرفة والمتبرعون بترير التنازلات، فإذا هي في منزلة بين منزلتي الذكرى الغالية والفجيعة والشعور المتزايد بالهوان.
وعبر الساحة. ومن فوق الجسر – الضريح، ينتقل السادة النواب إلى قصرهم المجدد كلما أرادوا أن يدفنوا قضية أو مطلباً، أو أعوزتهم الحاجة إلى زيادة في الراتب والمخصصات وتمديد الولاية!!
هل من الضروري أن نستدرك فنقول:
1 – إن اتفاق القاهرة، بمضمنونه وليس بتفاصيله، إنجاز قومي عظيم وإنه تحقق بقوة العروبة في لبنان كما بقوة العروبة في الأمة العربية، وليس بقوة البواريد الفلسطينية القليلة التي كان يتم “تهريبها” عبر الحدود مع سوريا إلى جنوب الجنوب، إلى التخم مع الأرض الفلسطينية المحتلة؟!
.. وبالتالي فإن إلغاءه وإسقاطه واعتباره وكأن لم يكن، على ما جاء في قانون الـ 44 نائباً ومعهم رئيسهم، هو إلغاء وشطب وإسقاط بل وإدانة لحقبة عزيزة على قلوبنا من تاريخ نضالات شعب لبنان من أجل تحويل الكيان إلى وطن والنظام الفريد إلى دولة والحكم إلى مؤسسات ديمقراطية تعترف بالمواطنين جميعاً وتعاملهم بالعدل والمساواة فتعطيهم ما هو من حقوقهم وتأخذ منهم حقوقها عليهم كاملة غير منقوصة؟!
2 – وإن اتفاق القاهرة لا يخص ياسر عرفات ومن معه ممن أضاع الطريق أو انحرف عنه أو أخطأ في الممارسة فأساء إلى فلسطين والفلسطينيين أضعاف أضعاف ما أساء إلى لبنان واللبنانيين؟!
ففي القاهرة كانت قيادة العمل القومي، وفي بيروت كان زخم الحركة الشعبية العربية، وأما فلسطين فكانت كما هي منذ اغتصابها القضية المقدسة، ودمشق كانت – كما دورها دائماً – السيف وموئل الدعم والمساندة، وبقوة هؤلاء جميعاً ،ومعهم سائر العرب العاملين من أجل التحرر والتحرير، كان اتفاق القاهرة.
3 – وإن اتفاق القاهرة ليس هو السبب في ما أصاب أبناء جبل عامل خاصة، ولبنان عموماً، على يد العدو الإسرائيلي، بل العجز العربي عن مواجهة العدو وأطماعه هو السبب.
لقد عجز العرب عن حماية أرضهم وسائهم وبحارهم، لاسيما بعدما ضيعت القيادات المنحرفة والمتخاذلة النتائج المشرفة لحرب 1973، فكانت الكارثة، التي انعكست في بعض وجوهها على لبنان واللبنانيين وفلسطين والفلسطينيين.
فلولا خيانة أنور السادات لما استشرى الانحراف في صفوف القيادة الفلسطينية، ولما انعكس هذا الانحراف على المقاتلين فحول نسبة كبيرة منهم إلى متفرغين مفسدين بالمخصصات والمكتسبات وأسباب الارتزاق بقوة السلاح ونزعة التحكم والتسلط التي جعلتهم يقيمون دولة من كرتون فوق رمال متحركة وينسون قضيتهم بل ويسيئون إليها كل يوم.
والرد على العجز لا يكون بتأكيده، كما تم أمس عبر إلغاء اتفاق القاهرة، وهو للمناسبة مطلب إسرائيلي دائم، معلن ومثبت في النص ضمن اتفاق الاذعان (17 أيار 1983)..
فإلغاء اتفاق القاهرة لا يمت إلى تحرير الجنوب بصلة، فالاحتلال تم نتيجة الغزو بالقوة المسلحة وليس بسبب الاختلاف الفقهي على مضامين ذلك الاتفاق.. وبهذا المعنى فإن الإلغاء يمكن أن يدرج بين نتائج الاحتلال وليس بين أسباب التحرر.
4 – إن المناضلين والمقاومين والصامدين من أبناء شعبنا العربي في الجنوب لم يأخذوا على الفلسطينيين قتالهم ضد إسرائيل، بل أخذوا عليهم إنهم لم يقاتلوها كما يجب أن يقاتل العدو. ولقد حاولوا ونجحوا عبر تجربتهم المباشرة بعد الغزو الإسرائيلي، أن يقدموا النموذج والقوة، فقاتلوا، رجالاً ونساء وأطفالاً، بالسلاح ومن دون سلاح، باللحم الحي وبالزيت المغلي، بالحجارة والأخشاب والزجاجات الحارقة، وما زالوا يقاومون ما وسعتهم المقاومة برغم إنهم متروكون للريح، لا دعماً يتلقون ولا تعويضاً يطلبون بل توجه ضدهم الحملات تشهيراً وإنكاراً لبطولتهم والتضحيات الجسام.
… وهل من الضروري أن نؤرخ للواقعة اللبنانية الخالدة (إلغاء اتفاق القاهرة) بما تزامن معها من وقائع عربية؟!
سجل عندك إذن:
أولاً – إن هذا الإلغاء تم بينما الحكم العراقي يقدم الاعتذار تلو الاعتذار للجبار الأميركي، كون إحدى طائراته قد أغارت – خطأ – على فرقاطة أميركية فأوقعت فيها 37 قتيلاً من جنود المارينز والبحارة.
وغني عن القول إن الفرقاطة الأميركية كانت على مقربة من الساحل العراقي، ولم تذهب الطائرة العراقية لقصفها وهي عند سواحل كاليفورنيا أو في بيرل هاربر.
وغني عن القول إن الكثير من حكامنا يطلبون “المارينز” ويرحبون بهم ويسعون بين أيديهم متى جاؤوا، ولم يعودوا يرون فيهم بعثة استعمارية أو حملة إمبريالية لتدعيم الصهيونية وحماية دولتها!
تماماً كما صار الوجود الإسرائيلي ضمانة وشرط حياة لهؤلاء الحكام، يدعمونه ويعززونه ويشفقون من ضعفه، حتى لقد فكر بعضهم في التوسط بين شامير وبين بيريز حتى لا تتصدع الوحدة الإسرائيلية فتنهار بعض العروش “العربية”.
ثانياً – إن طيران العدو الإسرائيلي يغير كل يوم على بعض المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان،
وإن مدفعية العدو الإسرائيلي، صريحة أو مموهة باللحديين، تقصف كل يوم المدن والقرى والقصبات في جبل عامل فتوقع مزيداً من الشهداء وتهدم المزيد من المنازل، وأمس كانت جرافات العدو تهم بإزالة قرية أرنون عن الخارطة.
مع ذلك فإن أهلنا في الجنوب ما يزالون يمشون رافعي الرؤوس بينما الأنظمة العربية تطأطئ رأسها وتقزم نفسها حتى لا تزعج الطيران الإسرائيلي أثناء طلعاته.
ثالثاً – إن المسؤولين الإسرائيليين لا يتعبون من التأكيد إنهم التقوا، مراراً وتكراراً، الملك حسين، وبحثوا معه شؤون الساحة واتفقوا، تقريباً، على صيغة المستقبل، ومع هذا فلم نسمع من القيادات العربية الأخرى بعمان، ما يوحي بالاستنكار أو الشجب، أو المناداة بمؤتمر قمة يعاقب الخارج على إرادة الأمة!
على العكس تماماً، سمعنا ياسر عرفات يجهر باستعداده للقاء شامير أو أي مسؤول إسرائيلي، في إطار الأمم المتحدة طبعاً (حفظاً للشكل)، غير آبه باتفاق الوحدة الوطنية المنجز في الجزائر بحضور البوليساريو وبصياغة يسار الانحرافل العربي!
ثم إن معظم الأنظمة يتصرف وكأن هذه اللقاءات، ما تم منها وما هو مطلوب، تمهد الطريق لانعقاد القمة الأخيرة قبل المؤتمر الدولي حيث يفترض أن تعلن “تصفية” الصراع العربي – الإسرائيلي بأبعاده كافة، ويكون بعد ذلك على الأرض السلام!!
على الأرض السلام؟!
ومن أين يأتي السلام طالما إن الأرض ستذهب ولا تعود؟!
وكيف يتبقى لنا أرض إذا كان السلام لا يأتينا ولا يعطى لنا طالما نحن أصحابها؟!
تلك هي المسألة،
وهي من الدقة بحيث تستوجب قمة طارئة،
فهلموا إلى فاس حيث ينتظركم “الحكيم المغربي” ومعه الدواء لكل علة!
ففي فاس كانت البداية،
وإلى فاس المآب والرجعى،
والفاس في الراس فأين المفر، يا أهل قصر منصور؟!
للمناسبة: هو منصور على من، غيرنا نحن الذين نعيش خارج عصرنا، عصر الانتصارات الذي يحتله أيار احتلالاً شاملاً،
للمناسبة أخيراً يمكن أن يؤرخ إن اتفاق القاهرة قد ألغي في بيروت بعد ستة أيام فقط من الذكرى الأربعين لاغتصاب فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني على أرضها وبعض الأرض العربية الأخرى!

Exit mobile version