طلال سلمان

على الطريق 1975 – 1992 الحرب اللبنانية – العربية – العالمية

بوسع سعيد عقل أن يرتاح الآن: لقد “تلبنن” العالم!
وبوسع سائر الزجالين أن يمارسوا الرضا الكامل عن النفس، فها هو لبنانهم “يطرطش” الدنيا كلها بمنجزاته الباهرة،
صحيح إن “اللبننة” هي في نظر الآخرين أقذع من شتيمة، وأخطر من مرض، ولكن “هالكم أرزه العاجقين الكون وال من قبل ما كان الكون كانوا هون” قد باتت لها شهرة تنافس حشيشة الكيف والخشخاش وسائر المخدرات بمختلف أنواعها.
كان العالم يأتي إلينا ليرتاح، فصار يخاف أن نذهب إليه فيتعب وأي تعب.
ولقد اختفت صورة لبنان المصيف والمسبح والمشتى و”الغارسونييره” والمنتدى الفكري والمطبعة والكتاب وصحيفة الصباح، لتحل محلها صورة “البلد المعلون” و”المستنقع القاتل” و”الرمال المتحركة” التي بوسعها أن تبتلع دولاً وجيوشاً وحكاماً ثم تطلب المزيد!
صارت عاصمة لبنان مصدراً للطاعون، ولذا يجب الحجر عليها، وحظر السفر إليها، كما رآها ذات يوم وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتس،
وصارت “اللبننة” اسماً لأخطر أنواع الأمراض السارية، يكفي ذكره لإثارة الرعب والذعر والخوف على المصير: الم يحذر آخر رئيس لآخر دولة شيوعية في العالم ميخائيل غورباتشوف أمته من هذا الخطر الداهم الذي يمكنه أن يفتك بها بأكثر مما فتكت البروسترويكا وبيروقراطية حزب النظام الحديدي؟!
وإذا كانت قد أمكنت السيطرة، ولو مؤقتاً، على التداعيات المحلية لـ “اللبننة” في بلد المنشأ، فمؤكد أن كثيراً مما يحصل في المنطقة العربية اليوم واضح الصلة بانفجار التاريخ في لبنان: تاريخ العلاقات الداخلية بين فئاته، وتاريخ العلاقات المركبة مع “محيطه” ومع العالم البعيد، وصولاً على ما يسميه الغرب، عادة “المسألة الشرقية”.
لقد انفجر تاريخ لبنان ففجر حقبة كاملة من التاريخ العربي، وها هي كل المكونات الأصلية تتشظى وتنتثر مخلخلة الجغرافيا وما كان دائماً في منزلة “الثوابت” في وجدان المواطن العربي عموماً حتى لو لم يكن معتمداً في خطة الحاكم.
وباختصار، فلولا الحرب في لبنان – بكل تداعياتها المذهلة – لما كان سهلاً على الغرب أن يعلن محاصرة ليبيا مستعدياً عليها “الشرعية الدولية” التي باتت الآن إحدى أدواته، وسط ذهول عربي مطعم بشيء من التواطؤ يمنع تحول التعاطف الشعبي إلى فعل وحركة معبرة عن بقايا إرادة وعن بقايا تضامن حتى لا نقول: وعن بقايا التزام بالحد الأدنى من موجبات المصير القومي الواحد.
ففي لبنان، وعبر أتون حربه المتعددة الأطوار والموظفة من بعد لأغراض متعددة ولخدمة أطراف متعددة، “ضرب” العرب حتى غابوا عن وعيهم وتاهوا عن أهدافهم وخسروا رباطهم المقدس فتفرقوا في كل أرض، يطلب كل منهم النجاة لنفسه ولو على حساب أخوته الأقربين: يا روحي ما بعدك روح!
في لبنان تفجر العرب كيانات وقطريات وأدياناً وطوائف ومذاهب، وعبر الحرب التي تورطوا فيها جميعاً ولأسباب مختلفة وبنسب مختلفة، خسروا براءتهم وعقائدهم ومرتكزات اليقين القديم.
تلوث كل بقدر، وتشوهت مفاهيمهم: تراجعت القومية بغير أن يكون وريثها “الوطنية”، وأفسد الدين لحساب الغرض الطائفي والمذهبي، وتهاوت إرادة التحرر لحساب طلب السلامة بأي ثمن من القادر على توفيرها ومهما كانت التنازلات.
لم يلحق التشوه اللبناني وحده، وإن كان هو الضحية الدائمة والجاني بلا محاكم،
لقد أصاب أيضاً الفلسطيني وقضيته. فما كان ثورة قبل لبنان وخارجه تحول في المستنقع الطائفي إلى انحراف خطير عن الهدف وعن الطريق دفع الفلسطيني (مثل اللبناني) ثمنه غالياً من دمه والأهم: من مستقبله ومن قداسة قضيته.
كذلك فقد خسر السوري الكثير من رصيده القومي المشع… وليس مكسباً للمناضل الوحدوي أن يصير “سوريا” وهو يواجه “الفلسطين” أو “اللبناني”، ناهيك بسائر العرب الذين يحسدونه على هذا “النصر” السياسي لقطريته.
لقد خسر كل منهم بعض “قوميته”، وفي غياب القومية يتحول صراع القطريات إلى قوة جذب للنفوذ الأجنبي ومداخلات القوى الغربية التي كانت “القومية” قد حققت عليها بعض النجاح في فترة المد الثوري تحت شعار “وحدة الهدف” أو “وحدة العمل” في ظل استحالة قيام الوحدة السياسية واستمرارها.
المهم أن انفجار لبنان كان كفيلاً بتفجير العديد من المسائل المتروكة للزمن في المنطقة العربية وفي أنحاء أخرى بعيدة.
ولقد انتقلت الشرارة “اللبناني” فلامست بنارها كل ما هو قابل للاشتعال من مسائل الصراع القومي والديني والعرقي في أربع رياح الأرض.
ومن أفغانستان إلى أرمينيا، ومن مصر إلى “الاتحاد الروسي”، ومن يوغسلافيا إلى الجزائر، كان دائماً هناك بعض “الخبراء” والكثير من الخبرات من لبنان (سبقت السلاح أو لحقت به)، كما أعيد استخدام الكثير من “أدبيات” أطراف الحرب الأهلية ومن “خطابها السياسي” المثقل بجثث الضحايا الأبرياء، دولاً وشعوباً وجماعات وأفراداً ضائعين أو مضيعين.
كان لبنان ما قبل الحرب يأخذ من غيره، وينسب (سياسياً أو اقتصادياً او اجتماعياً) لغيره، ويوصف بغيره… فهو ، عبر نظامه، أو عبر بعض شرائحه الاجتماعية “متغرب” عموماً، لا فرق بين أن يكون التغرب “أمركة” أو “فرنسة” أو حتى “صهينة” (كما في الطبعات الأخيرة)،
أما الالتحاق بهذا النظام العربي أو ذاك أو “التبعية” فهي تهمة دائمة لم تعد تجد من يعنى بنفيها أو الرد عليهاز
اليوم صار لبنان “خطيراً” يستنفر الوطنيات والمخابرات والشرطة،
كأنما للحرب التي انفجرت فيه قبل سبع عشرة سنة بعض خصائص الذرة، فعواملها لا تفتأ تنشطر على ذاتها وتتفجر مكتسحة المدى الداخلي ومنتقلة عبر العناصر المتعددة التي يتكون منها إلى الخارج القريب والبعيد.
وبرغم الخلاف على التوصيف والتصنيف، فإن هذه الحرب “العالمية” في أسبابها قد انتهت “عالمية” في نتائجها.
من كان يعتبرها، من اللبنانيين، حرباً من الخارج على الداخل،
ومن كان يعتبرها حرباً داخلية تستفيد من عوامل الصراع بين القوى الدولية المختلفة وتعود فتفعل فيها،
ومن كان يعتبرها مزيجاً من هذا وذاك،
كل هؤلاء يتفقون الآن، وفي ضوء النتائج، على أن الوقت وتفاعل الأسباب وتأثيرات اختراق العامل الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي ودخوله طرفاً مباشراً في الصراع، كل ذلك أسهم في إعطاء هذا المشهد السوريالي حيث يبدو وكأن كل الأطراف مشتبكة في صراعات متعددة الجوانب والأغراض، لا تعرف كيف تخرج من المستنقع الذي أغراها سكونه بالتوغل فيه حتى “تلبننت” في لغتها ومفاهيمها ومن ثم سرعت انتقال العدوى.
ما أبعد اليوم عن البارحة، وما أكثر ضحايا هذه الحرب التي لا تنتهي تماماً وتظل قابلة للاشتعال وللانتقال والتحول بحسب أغراض القوى القادرة على توظيفها والإفادة من نتائجها.
لقد دفع كل عربي فيها بعض دمه أو بعض ماله أو بعض آماله
ولا يستطيع نظام عربي أن يدعي البراءة، بغض النظر عن موقعه من النتائج وهل هو متضرر أو مستفيد،
تماماً كما لا يستطيع طرف سياسي لبناني ادعاء البراءة، فحتى من لم يشارك في حمل السلاح وفي إطلاق النار، ترك بعض بصماته على التعبئة والتعبئة المضادة، إن برفع الشعار المستحيل أو بمحاولة القفز عن الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولعل العرب قد وعوا خطر الطائفية، أكثر ما وعوه، بعد لبنان ودهر الحرب فيه.
ومع أن ردود فعل أنظمتهم تراوحت بين التشدد في قمع مظاهر المرض، من دون علاجه، وبين محاولة الالتفاف عليه بشيء من الديموقراطية وتوكيد روح التسامح، فإن هذه الجرثومة الكامنة دائماً قد عرفت الكثير من الانتعاش وتطورت من مشكلة مطمورة بالإهمال أو بالرهبة إلى أزمة قابلة للتفجر وتدمير ما حولها… وقابلة ايضاً للتصدير.
ما أبعد اليوم عن البارحة، وما أبعد كل لبناني عن شعاراته قبل الحربب أو عن أهدافه المتوهمة فيها أو عن افتراضاته المستحيلة المعلقة على نتائجها المتخيلة.
وليس اتفاق الطائف نصراً لأي طرف، بل هو أقرب إلى هدنة تؤجل إعلان هزيمة الأطراف جميعاً ريثما يمكن ترتيب صيغة حكم بين المهزومين.
إن لبنان أضعف بما لا يقاس مما كان في العام 1975، وكذلك فلسطين، وكذلك العرب جميعاً،
وصورة العرب ما بعد حرب لبنان لا تختلف كثيراً عن صورة لبنان المدمرة عاصمته ومدنه وقراه، والمخربة مؤسساته جميعاً، والمستنزف اقتصاده إلى حد التجويع.
فنفط الخليج ليس لأهل الخليج (ومن باب أولى ليس للعرب)،
وقوة العراق (الأسطورية) قد انقلبت إلى تمزق يكاد يذهب بأساسيات هذا البلد العريق والذي كان الأغنى بين أخوانه بموارده الطبيعية وبقدراته البشرية وإمكاناته المادية.
وشعب فلسطين في تيه المفاوضات المباشرة، يذهب بلا دعوة إلى حيث لا يرغب أحد في التحدث إليه، بينما الكل يتحدثون عنه!!
… وها هي الجزائر على عتبة حرب أهلية،
ومصر التي كانت أبرز ميزاتها التماسك الاجتماعي وهيبة الدولة وقوة الحكم، تظهر مفسخة وضعيفة ومهددة في وحدتها الوطنية وفي منعة مجتمعها، برغم فقره.
أما ليبيا فتواجه “قدرها”: حرباً غربية معلنة تحاول الثأر والانتقام من كل تصرف أو فعل أو شعار رفع ذات يوم ضد الغرب (الصليبي – الفرنسي، الإيطالي، البريطاني، الأميركي وصولاً إلى الإسرائيلي) فوق أية أرض عربية.
إن الغرب يحاصر في ليبيا ما يتجاوز شعبها وقائدها:
إنه يحاول إزالة آخر أثر أو صورة لجمال عبد الناصر وكذلك لعمر المختار، بل حتى للمرابطين، كذلك فهو يريد استئصال إرادة التحرر بأشكالها المختلفة السياسية والثقافية والاقتصادية وصولاً إلى الكفاح المسلح، كما يريد فك عرى العلاقة بين العرب أنفسهم ثم بينهم وبين من يخوضون المعركة ذاتها في مختلف أرجاء العالم الثالث بل والعالم كله.
فالحرب على ليبيا هي استمرار للحرب على آخر المناضلين ورايات النضال التي لم تسقط نهائياً في بيروت،
فكل ما له علاقة بالثورة إرهاب يجب استئصاله،
وكل ما له صلة بالتحرر والسيادة والاستقلال تمرد على النظام العالمي الجديد لا بد من اجتثاثه من جذوره.
لقد انتهى زمن الثورات،
فالحرب في لبنان كانت إيذاناً بأن رفع الثورة إنما يؤدي إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر،
وها هي الحرب الغربية على ليبيا تتجاوز ذلك لتعلن أن السيد الأميركي لن يتورع عن استخدام أساطيله (وأساطيل الآخرين من أطراف التحالف الدولي!!) لمطاردة آخر منشور أو هتاف معاد للغرب عموماً وللولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص.
هي الحرب على العرب مستمرة، وإن اختلفت التسميات أو الجبهات.
ومن أسف أن العرب، بعضهم أو كلهم، ضالعون فيها،
واللبنانيون الذين يعيشون نوعاً من النقاهة الآن يعرفون أن الصحة لن تكتب لهم، طالما استمر “المرض” يضرب أسباب السلامة في المنطقة العربية برمتها،
فالكل في الحرب شرق، سواء تفجر بها الداخل أو جاءت بها الأساطيل من الخارج.
وما دام العرب فرادى فسيظلون في موقع الضحية حتى لو ادعى بعضهم أنه إنما هو المخطط والمدبر والمنفذ والأداة.

Exit mobile version