طلال سلمان

على الطريق

تستمتع شعوب الأرض جميعا، هذه الأيام، بالفرجة على المثل الأعلى للعولمة بكل »قيمها« وهو يتبدى عارياً، مبتذلاً، ذليلاً، يطلب الصفح من الجميع، داخلاً وخارجاً، متعهداً بعدم تحويل البيت الأبيض مجدداً إلى وكر للدعارة!
إنه »الانتقام« المتاح للمستضعَفين الذين قهرهم ويقهرهم هذا الجبار بقوته المطلقة في زمن الانهيار الشامل للتوازن الدولي.
يجلس الجميع أمام شاشاتهم الصغيرة، أو إلى صحفهم، أو في مقاهيهم، يتندرون بآخر ما سمعوا أو قرأوا أو شاهدوا من تفاصيل الفضائح التي لا تكشف حقيقة »الشخص«، بل طبيعة النظام الذي أنجبه ثم اتخذه رمزا لأهليته وجدارته بقيادة الكون في القرن الحادي والعشرين الذي بشّر كلينتون بأنه سيكون أميركياً كما كان القرن العشرون.
من الخلق الشخصي إلى السلوك السياسي في التعامل مع المؤسسات »الديموقراطية« أو الرأي العام، إلى النموذج الاقتصادي الأمثل لرفاه الإنسان، بعد »حقوقه« الطبيعية في التفكير والرأي والقول والعمل، يتبدى وجها الصورة متكاملين: بيل كلينتون وبوريس يلتسين.
الوجه الأول جاد إلى حد الإضحاك، خصوصاً وصاحبه يعلن التوبة وهو يزم شفتيه ويكاد يجهش بالبكاء ندماً، ويطلب الصفح من ضحاياه جميعاً، وعلى رأسهم عشيقة الجنس الشفوي مونيكا لوينسكي.
والوجه الثاني كاريكاتوري يثير السخرية وليس الإشفاق، وصاحبه يعلن في الفاصل بين سكرتين، قرب انفجار الحرب الأهلية في بلاده التي مسخها من امبراطورية عظمى إلى متسول أممي!
لا يكفي أن يحاكم النظام الأميركي »رأسه«، وأن يتبرّأ من فضائحه التي أدرجها في قائمة طويلة أخطرها الكذب وتعطيل أعمال القضاء، وآخرها التفنن في ممارسة الجنس مع »المتدربات«، بينما هو يصدر القرارات أو يجري المباحثات في أخطر مسائل السلام العالمي أو مع حصن الديموقراطية الأميركية الفريدة: الكونغرس بمجلسيه!
المفارقة أن »الرئيس« الذي أسقطه ضمير العالم منذ الفضيحة الأولى، يزداد شعبية لدى رأيه العام المعروف برقيه السياسي وثقافته الباهرة واهتمامه الفذ بالشؤون الدولية ومعرفته الواسعة بالكون جميعا!
ولن يستعيد هذا النظام الأميركي اعتباره في عيون العالم حتى لو أسقط كلينتون غدا، فمبررات الإسقاط أميركياً مختلفة كلياً عنها عند »الخارج«، بل لعلها تقف على النقيض تماما: فالعالم ضد »سياساته« التي لم يظهر حولها أي خلاف داخلي (من فرض الحصار على شعوب عديدة بينها ليبيا والعراق، إلى قصف السودان ومواقع أخرى)، وقد جاءت الفضائح الأخلاقية تجسيماً للخلل البنيوي في طبيعة النظام الذي يمكن أن يوصل إلى سدته المهووس بالقوة أو بالجنس أو بالمال، ومن خارج أي معيار للكفاءة، بينما »الداخل« لا يأخذ عليه إلا عدم التحوّط، والتورّط في الكذب بذريعة حماية عائلته في سمعتها.
ولا يكفي أن يفتدي بوريس يلتسين رأسه بنظامه الهجين، وبالأقرب من معاونيه ومن منظّري الرأسمالية الوحشية، بينما النهب المنظّم لخيرات روسيا ولخبز شعبها مستمر، فيحصل هذا السكير المهووس بالسلطة والجنس أيضاً، على بوليصة تأمين لرئاسته المدمرة!
الأب الشرعي للعولمة واقتصاد السوق وحقوق الإنسان،
والابن الشرعي للعولمة واقتصاد السوق وحقوق الإنسان.
الأصل والصورة. المضحك والمبكي. الهازل والمأساوي.
و»الرأي العام« مسلوب الإرادة، عاجز، يتفرّج كالأبله على مآسيه الهازلة أو على مهازله المأساوية، فلا يملك أن يقرّر أو يؤثر في القرار، وإنما يتلقى النتائج التي تُعلَن باسمه، في انتظار فضائح جديدة أو كوارث جديدة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، قبل القيم الأخلاقية وبعدها.
والشعوب المقهورة أعجز من أن تفيد من سقوط المثل الأعلى الأميركي ومسخه الروسي.
إن أوضاعها الذاتية تشلها عن الفعل وعن استغلال الانهيارات في القمم المتحكّمة بمصائرها لما ينفعها في توكيد حقها بأن تختار طريقها، وبأن تبني مجتمعاتها بما يليق بكرامة إنسانها.
لقد أسقط الرئيس الأميركي سحّاب بنطاله فأسقط رمز القوة الأعظم، الدولار، بينما يكاد الدولار الأميركي يُسقط الرئيس الروسي بوريس يلتسين، وروسيا جميعاً، وهي بلا خبز، إضافة إلى العديد من الدول الغنية والقوية في العالم.
إنها الدعارة السياسية على حساب مليارات من البشر، وليست مجرد دعارة جسدية تجري فصولها مكشوفة، وبالصوت والصورة أمام عيون تلك المليارات من البشر في أربع رياح الأرض.
ومن يدري، فقد تضاف الكفاءة الجنسية، أو الكذب، والقصف العشوائي لمصانع الدواء، ومحاصرة الشعوب بالجوع وإرهابها بتهمة »الارهاب«، الى مواصفات الرؤساء المقبلين الذين سيقودون البشرية في القرية الكونية التي تتبدّى الآن محاصرة ومحصورة في بنطال بلا سحّاب، وفي بيت أبيض بلا رئيس!

Exit mobile version