طلال سلمان

على الطريق .. و”المفاوضات” الممنوعة في الداخل؟!

النقاش كله حول: كيف نذهب إلى المفاوضات مع العدو الإسرائيلي في واشنطن؟! هل نتجهم ونرسم هيئة العبوس على وجوهنا احتجاجاً على قراره بطرد الأربعماية فلسطيني من أرضهم؟! أم نضع شارة حداد في عروة السترة إشارة إلى حزننا على القرار 799 الذي وأدته إسرائيل، برعاية أميركية، وبأيد عربية فقضى في لحظة ولادته تقريباً؟! أم هل نظهر الغضب لواشنطن لأنها لم تحفظ لنا ماء الوجه بينما أعطت إسرائيل ما يتجاوز طموحاتها؟!
في غمرة هذا النقاش الخطير لم يلتفت أحد بالاهتمام الكافي إلى مشكلة تفصيلية داخلية عنوانها: إن لا حوار ولا تفاوض بين الحاكم العربي ومحكوميه، إلا في ما ندر!
در بناظريك في هذا المدى الفسيح للوطن العربي، وحاول أن تسمع غير دمدمة الغضب المكتوم أو دوي الحقد المتفجر رصاصاً ودماً، أو هسهسة المنافقين والمرتزقة بالدعاء لحفظه الله ولي النعم!!
من أقصى المغرب، مع وقفة تأمل في الجزائر وتونس، إلى أقصى المشرق في جزيرة الصمت الأبيض والذهب الأسود، مروراً بكنانة الله في أرضه، مصر، التي “يتبرع” بعض مثقفيها بتنظيم “حوار” أخرس بين حكم عيي ومدجج بآلة الحرب وبين “أشباح” ترفع راية الإسلام ثم تتلفع بالعتمة وتخوض مع العسس معارك ثأر قبلية تضيع في طيات دمويتها القضية والوطن والدولة بقبطها والمسلمين!
إنها حكومات تقول: لا حوار، لشعبها، وترفض التفاوض “تحت التهديد” بالإضراب أو الاعتصام أو الاعتراض أو النقد ولو همهمة!
لكنها بالمقابل تهرول بغير تحرج أو مداراة للأصول أو مقتضيات “الهيبة” إذا ما استدعتها واشنطن لكي تضعها إلى الطاولة لتفاوض “العدو” الوطني والقومي.
… فإذا ما بدر منها اعتراض فعلي الشكل وليس على المبدأ، وكمناورة لخداع محكوميها وليس لرفض المفروض أو حتى لتحسين شروط التفاوض!
إن أزمة الأمة هي أن الحوار معطل في داخلها، وإن التفاوض متعذر بين الحكام والمحكومين من أبنائها!
فهذا العراق تقطعت أوصاله ووزعت أرضه ومنشآته أسلاباً وغنائم على قاهري إرادته ومحطمي وحدته ومدمري قدراته، بدءاً بصدام حسين وانتهاء بجورج بوش، مروراً بالكرد والتركمان والشركس والترك والعجم والفرنسيين والإنكليز والهولنديين والبرتغاليين والألمان واليابانيين والشوشان والتتار الخ…
لم يبق ملك أو رئيس أو قائد أو جنرال متقاعد أو كاتب أو كويتب أو معلق صحافي أو إذاعي أو تلفزيوني أو منجم أو فلكي، إلا وقال رايه في ما جرى ويجري للعراق.
وحده شعب العراق ممنوع من أن يقول كلمته.
والكل، المذكورة ألقابهم فيه أعلاه، تحالفوا مع صدام حسين في منع العراقيين من أن يقولوا كلمتهم، ثم انعطفوا يلومون شعب العراق المكب بالدكتاتورية والحصار والجوع لأنه لم يعبر عن إرادته ولم يسقط الطاغية!
.. وهذه مملكة الصمت الأبيض إلى حد الموت، والذهب الأسود إلى حد السفه، تعامل وكأنها “مزرعة ملكية خاصة” لا شعب فيها ولا إنسان يستحق أن يُمن عليه بتلك الحقوق التي توهب بسخاء للفالاشا والخزرج!
منذ سنوات طويلة، تزيد على نصف قرن، تتهاطل الوعود الملكية على الرعية بأن – حفظه الله – سينعم عليهم بمجلس للشورى “له فم يأكل وليس له فم يحكي”… ثم تضيع الوعود في غياهب الربع الخالي، ويستمر الصمت الأبيض كالموت سيداً ممطلقاً في الأرض التي أطلقت أعظم دعوة للعدل الإنساني ولاحترام حقوق الإنسان.
… وهذه الجزائر، بلاد المليون شهيد من أجل الجرية والعروبة والكرامة وان يكون الإنسان نفسه، يفرض حكم الحديد والنار على شعبها الباسل، وتقهر إرادته بحجة أنه دون مستوى الممارسة الديموقراطية، ويعتقل برمته ويعين الحكم نفسه وصياً على الشعب القاصر، ويوصد الأبواب أمام المعترض والمعارض ويقرر أن يحاور نفسه ونفسه فقط، وكفى الله المؤمنين شر الجدل!
أمعقول أن يكون “الحكم الوطني” أقسى على شعبه من المستعمر، وأن يأخذ عن هذا المستعمر الكثير من “أدبياته” في مخاطبة الجزائريين؟!
أمعقول أن تنتهي الثورة، بعد ثلاثين عاماً من حكم رجالاتها إلى فرض الخرس على الشعب الذي أعطى من دمه بلا حساب من أجل أن ينال حقه في الوجود وفي ممارسة هذا الوجود فوق أرضه ووفق ما يريد؟!
يمكن الاستطراد في إيران الأمثلة إلى آخر تخم لآخر حكم عربي يسور نفسه بالصمت الأبيض والعقم واحتقار الشعب وتمييز نفسه عنه وكأنه أنزل بالمظلة من أعلى عليين ولذا استحق كل تلك الألقاب العازلة التي تصوره بديلاً من الله، جل جلاله، على الأرض.
المشكلة هنا، إذن، قبل أن تكون في واشنطن، ومع بعضنا البعض قبل أن تكون مع العدو الإسرائيلي،
إن حكامنا لا يعترفون بالشعب، وبديهي بالتالي ألا يعترفوا “بمعارضيهم” ولو في التفاصيل،
يكفي أن نتأمل المشهد الفلسطيني لنعرف سلفاً كم سيكون موقف الوفد المفاوض ضعيفاً بسبب الخلافات الداخلية الناجمة بمعظمها عن عدم الاعتراف المتبادل، وانعدام الحوار بين أبناء القضية الواحدة ورموز النضال السياسي من أجلها.
وكخاتمة طريفة فلا بد من الإشارة إلى أن بلداً كلبنان، يشكل الحوار شرطاً لوجوده، بدأ حكامه يضيقون ذرعاً بالأصوات المعارضة المعدودة والمحدودة التأثير والمطالب.
صار المجلس النيابي رمزاً للتطرف والشطط والمبالغة في القسوة وتعطيل قدرة الحكم الأسطورية على الإنجاز،
مع أن هذا المجلس يكاد يكون بلا عمود فقري، وبلا كتل سياسية تناصب الحكومة العداء وتقسو في نقدها وتعرية أخطائها وتستعجل رحيلها لتتقدم هي ببرنامجها البديل الحاكل الحل الصحيح للمعضلات جميعاً!!
الطريف أن بعض المشكلات المعطلة للمفاوضات العربية – الإسرائيلية ناتجة عن “اضطرار” الحكومات العربية إلى مداراة حرج الرئيس الأميركي أمام الرأي العام الأميركي، وإسناد رئيس حكومة العدو الإسرائيلي ونصرته على المعارضة التي تمثل تياراً واسعاً من الرأي العام الإسرائيلي.
لكأنما العرب وحدهم من دون راي عام،
… ومن إذن يحاور الطرف المفرد؟!

Exit mobile version