طلال سلمان

على الطريق … والحصار الآخر من يرفعه؟!

تقزمت “المسألة اللبنانية”، بكل حروبها وفواجعها وتعقيداتها المخيفة، فحصرت وحوصرت في موضوع الحصار البحري لميناء بيروت ونادي اليخوت في جونيه وبعض مرافئ التهريب التي أقامتها الميليشيات في المسافة بين طبرجا وجبيل ذات القلااع،
لكأنه حصار برلين الذي يقرر نتائج الحرب العالمية الثانية،
أو لكأنه مكمن العلة في الجسد اللبناني النازف،
أو لكأن رفعه ينهي الصراع العربي – الإسرائيلي وبين نتائجه استمرار احتلال إسرائيل لبعض الأرض في لبنان وبعض الإرادة العربية،
أو لكأن رفعه ينهي “الحرب الجديدة” التي اكتشفها فجأة مؤتمر القمة الاستثنائي في الدار البيضاء وقرر التفرغ لإتمام مصالحة أو حتى هدنة بين دمشق وبغداد لعل ذلك يحمل السلام إلى بيروت الجريح.
برغم هذا كله فلا أحد يدافع عن أي نوع من أنواع الحصار، مهما كان محدوداً، إذا كان يمس حياة الناس أو حقوقهم الطبيعية في وطنهم.
لكن الرافض، مبدئياً، للحصار بأشكاله كافة، لا يمكنه أن يسلم ببراءة هذه الضجة لاهائلة المثارة حول منع دخول المزيد من أسلحة القتل والدمار إلى ترسانة ميشال عون التي باتت تضيق بما تدفق عليه من الترياق العراقي،
لكأنما صار السلاح والمزيد منه هو الحل في حين إنه المشكلة،
ولكأنما تعزيز مكانة ميشال عون وفرضه بالقوة على لبنان يقربان أمد الفرج المرتجى،
ولكأنما إدخال العصر النووي إلى لبنان وفيه أو إدخال لبنان فيه وإليه، بحراسة البوارخ الإسرائيلية، يسهل بلوغ شاطئ الوفاق الوطني وتحقيق الاصلاح السياسي المطلوب وقيام الحكومة المركزية القوية الخ…
حتى اللجنة الملكية – الرئاسة الثلاثية غرقت في شبر الماء هذا وما زالت تدور حول نفسها لا تعرف طريقاً للخلاص، وهي الآتية لتخلصنا، والتقدم نحو الملف السياسي باعتباره هو هو الموضوع والباقي تفاصيل، هو هو السبب والباقي نتائج صارت من بعد أسباباً تستولد في كل يوم نتائج جديدة أفظع من سابقاتها التي ولدتها!
الرافض للحرب واستمرارها لا يمكنه أن يقبل بالحصار أو يقره.
لكن الرفض للحرب لا يعني عن رؤية حقيقة أن الحصار من النتائج وليس من الأسباب،
والعلاج يتجه إلى مكمن العلة وليس إلى بعض مظاهرها وعوارضها السطحية،
ومتى فتح الملف السياسي، بجدية، سيتبين كم إن الحصار عارض وسطحي ويمكن طي صفحته بلحظة واحدة، وبغير ما حاجة إلى المداخلات والشفاعات والمطالبات الدولية التي تكاد تزور علينا – نحن الضحايا – أسباب مأساتنا وهوية المسؤولين عنها.
على إن حديث الحصار البحري يستدعي ويفرض على الفكر والنفس بعض التداعيات المنطقية حول أنواع أخرى من الحصار هي – بالقطع – أثقل وطأة وأقسى منه وقعاً، وإن كنت لا تثير اهتمام “الدول” وسفرائها المبجلين، ولا تلفت انتباه الملوك مجتمعين أو متفرقين.
لا يتصل الأمر بحقيقة أن لبنان ما زال يعيش أسيراً للحصار الإسرائيلي الذي بلغ ذروة تجلياته بالغزو العسكري في صيف 1982، ثم انحسر في المساحة، وإن كان قد ازداد عمقاً وتوغلاً في النسيج الاجتماعي اللبناني حتى استرهن القرار السياسي مستولداً بذلك نتائج أخطر من تلك التي فرضها بقوة السلاح.
… وهكذا في أي حال حصار منسي، فلا الدول تذكره ولا الملوك يتذكرونه، وإذا ما “باغتهم” في بعض قممهم أشاحوا بوجوههم حتى لا عين ترى ولا قلب يوجع ولا ضمير يستفيق من رقاده على هول التقصير السابق والقائم واللاحق.. بإذن الله.
لكن الأمر يتصل بحصار نفسي مرهق وممض يفرضه تعذر الحوار حول الواقع السياسي القائم في البلاد، وهو واقع أشوه فاسد ومفسد لا بد من إصلاحه جذرياً وغلا استمر يقوم بدور الولادة للحروب الأهلية كلما هدأت واحدة استعرت أخرى لأن الأسباب قائمة وقابلة للاستخدام في كل وقت.
أليس حصاراً أن تعيش محكوماً عليك بطأطأة الرأس دائماً حتى لا يخرق رأسك إن رفعته سقف امتيازات الطائفة العظمى فيهتز النظام ويتصدع الكيان ويكون الويل والثبور وعظائم الأمور؟!
أليس حصاراً أن يجني عليك اسمك ومصادفة الانتماء الديني لأبويك في منطقة تنقل أهلها بين الأديان والطوائف والمذاهب وفقاً لاعتبارات سياسية وليس لأسباب تتصل بالإيمان.
فاسمك يقرر مكانتك في “الدولة” بمؤسساتها المختلفة، مدنية وعسكرية، ومكانك في المجتمع بمعطياته الاقتصادية والثقافية.
اسمك، يا جلالة الملك، يطاردك – لو كنت لبنانياً – كاللعنة، لا تملك أن تتبرأ منه ولا يساعدك أن تتمسك به وتفخر فاسمك قد يقتلك، وقد يدفعك إلى الانتحار، وقد يتسبب لك في الذلة والمسكنة وافتقاد العزة، وهو قد يفرض عليك إن كنت ضعيف النفس أن تقتله لكي تندفع صعداً في سلم المراتب الاجتماعية!
أليس حصاراً أن تختار لأبنائك أسماء ملتبسة لا “تفضح” خزي انتمائهم لغير الطائفة العظمى، وغالباً ما تكون أسماء أعجمية قد تمنع عنهم الاعتزاز بماضي أمتهم التليد ولكنها قد تفتح لهم أبواب المستقبل بفضل التمويه المتقن لحقيقة الانتماء إلى هذه الأرض والناس الطيبين، الذين صنعوا تاريخها كله؟!
أليس حصاراً أن تحرم من أبسط حقوقك كإنسان، وأن تعيش العمر كله مجرد “ملحق” و”تابع” لآخر لا يتميز عليك لا بالكفاءة ولا بالقدرات، لا بالموهبة ولا بالعلم، وإنما “بمصادفة” انتماء أهله الديني الذي يقرر إنه “فوق” وإنك “تحت”، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.
أليس حصاراً أن تولد وقد سبقتك تهمة النقص في الولاء للكيان، وتموت وفي نفسك غصة من إنك حرمت من أن تحلم – مجرد حلم – بالوطن؟!
أليس حصاراً أن يصير المتعامل مع العدو الإسرائيلي رئيساً للجمهورية فلا يتهمه أحد في وطنيته، وأن تكون مجاهرتك بعروبتك مصدراً للطعن في وطنيتك وإخلاصك للكيان الخالد؟!
أليس حصاراً أن تحرك من حقك في تقرير مصيرك الشخصي أو مصير بلادك، فأنت في الأول ملحق بصاحب الامتياز، وأنت في الثاني ملحق بالقوي من “العرب” في الخارج،يساوم عليك معه فإذا نجحت الصفقة دمغت قوميتك ومشاعرك الوطنية بوصمة العمالة وإن فشلت صرت عرضة للانتقام لأنك لم تأت بالثمن المطلوب!
مع ذلك يتساءل غبطة البطريرك الماروني، من مصيفه في الديمان، ما إذا كان الاصلاح “يحرز” كل هذا الدمار الذي أصاب ويصيب لبنان واللبنانيين،
ومع ذلك يقول العديد من النواب الأكارم إنهم لن يقبلوا أ
ي حديث في شأن الاصلاح ما لم يرفع الحصار… البحرين، كأنما الاصلاح سيأتي من البحر!!
ومع ذلك يطلق السفير الأ/يركي ومن بعده بعض أكابر السفراء تصريحات يشدد فيها على أولوية فك الحصار، ومن ثم يكون الحديث في الاصلاح… كأنما الاصلاح موضوع طارئ استجد بعد فرض الحصار الذي أعلنه وباشره – للتاريخ – العماد ميشال عون بقراره الشهير في 7 آذار الماضي قم بمدافعه البعيدة المدى ذلك الصباح الدامي ليوم 14 آذار الأسود.
… وما دام الاصلاح “لا يحرز” فلماذا يرفضون مجرد فتح سيرته؟!
لماذا لا يسملون به فعلاً، والمطلوب منه “أتفه” من أن يحقق طموحاً أو يوفر للناس حقهم الطبيعي في الكرامة؟!
لماذا يفضلون دائماً الذهاب إلى الحرب بدلاً من التلاقي في حوار وطني مفتوح حول غد أفضل لكل اللبنانيين؟!
لماذا يهربون من أخوتهم في الأرض والهوية والمصير إلى “الدول” يستعدونها عليهم بذريعة الخوف، كأنما الأمان لا يجيء إلا من الخارج بينما الداخل مصدر الخطر؟!
وكيف لا يخاطف من يقدم الأجنبي والعدو القومي ذاته على أخيه وشريك مصيره؟
… ويتحدثون عن الحصار البحري،
وينهمك الجميع في البحث عن حل لمعضلته العويصة، حتى وهم يؤكدون إنه النتيجة لا السبب، وإن الحل في مكان آخر، أبعد من المرافئ موضوع الحصار البحري.
فهل ينتبه السادة أعضاء اللجنة الثلاثية إلى أن الحصار الآخر أخطر بنتائجه من حصار محدود، في الزمان والمكان والهدف، غرضه منع تفاقم الحرب في لبنان، وبين الدول على أرضه… وكل ذلك بحراسة البوارج والطائرات الحربية الإسرائيلية؟!
أليس طريفاً أن يتهم فارض الحصار أسراه ورهائنه و”عبيده” بأنهم إنما يحاصرونه وأن يطالبهم برفع أيديهم عن هراوته لكي يستمر في تأديبهم؟!
ألا “يحرز” الحصار الآخر بعض الجهد منك يا صاحب الغبطة؟!
… حتى وأنت تدرك تماماً إنه سبب دائم للحرب في الحاضر والمستقبل، ولاستدراج كل أسباب الموت، وكل أنواع التدخل الذي يلغي ليس فقط الحريات والامتيازات بل الكيان ذاته ومن باب أولى هذا النظام الفاسد المفسد للدين وادلنيا، كما لا بد تعرف يا صاحب الغبطة؟!

Exit mobile version