طلال سلمان

عن بطل عربي اسمه نلسون مانديلا ..

بكل الرهبة التي تداهمك وأنت تلمس »المقدس« تقدمت لمصافحة اليد المعروقة لنلسون مانديلا، ثم تنحيت لمن بعدي ممن جاء يتبرّك به.
كنت وعدد من الزملاء »نغطي« أعمال القمة لمجلس التعاون الخليجي في أبو ظبي، وكان مانديلا ضيف الشرف فيه. وبغير اتفاق، انصرفنا عن الكل إليه، نتأمل وجهه الطيب الدقيق القسمات الناضح بهدوء العميق الإيمان، نتابع حركة عينيه اللامعتين وهما تجوبان أنحاء القاعة البالغة الفخامة، ونجري بغير قصد المقارنات بينه وبين حشد المسؤولين العرب، الحاضرين منهم والغائبين، فنتنهّد بحسرة، ثم نعود الى »متاعبنا« نلاحقها وتلاحقنا في المطاردة التقليدية التي لا تنتهي.
رجل بملامح نبي، كما في حكايات أمهاتنا عن الأنبياء، يحمل تاريخه فوق وجهه، ويحمل في قلبه بلاده، ويحمل على كتفيه الضعيفتين أعباء عشرة آلاف يوم من السجن، عدا آلاف أيام المطاردات والاعتقال المؤقت، وأثقال حكم لبلاد خارجة من استعمار استيطاني أنكر على أهلها حقوقهم فيها لدهر استطال 392 سنة!
في السجن أسطورة، وفي الحياة بطل قومي ورمز إنساني مضيء، وفي الحكم نموذج فذ لرجل الدولة، وفي التسعين من عمره يرقى إلى القمة متمتعاً باكتمال الاتساق مع سيرته الذاتية: هو الأقوى من الزنزانة الانفرادية أسيراً، والأقوى من زنزانة التفرد بالسلطة، الأقوى من القهر الاستعماري ومن إغراء الحكم، يخرج منه الآن إلى… الحرية المطلقة وقد أتمّ واجبه، مثالاً أعلى قلّ ان عرف التاريخ البشري له شبيهاً.
اليوم »يتحرر« رولي هلاهلا هندري مانديلا، للمرة الثانية، و»الجهاد الأصغر« في السجن كان أسهل عليه من »الجهاد الأكبر« في السلطة… ويسلم الراية الى رفيق نضاله (الشاب) ثابو مبيكي، الذي أخذ صداقته عن أبيه، رفيقه في السجن، وشريكه في الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي (رمح الأمة) أيام الكفاح المسلح.
لكم كان اسمه مطابقا لواقعه (مانديلا تعني بلغة قبيلته الهوسا، من يُخلق للمتاعب)، هذا الذي شكّل أجمل خاتمة لقرن الثورات والانتفاضات التحررية والعقائد والأيديولوجيات التي فتحت باب التاريخ للناس، قبل أن يغلقه الانتكاس والتناقض بين الشعار والممارسة، ليتركه ساحة حرة للرأسمالية المتوحشة واقتصاد السوق والمبشرين بنهاية التاريخ..
ولكم جاءت تجربته الفريدة في بابها نافية لانقضاء عصر النضال والمجابهة للظلم، فهو قد انتصر في لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي، والانتكاسات المتوالية للثورات التحريرية التي التهبت بها جنبات أفريقيا ذات يوم ثم تهاوت على عتبات السلطة وإغراءاتها الوحشية.
إنه يكاد »المثال« المطلق، متجاوزاً الخطأ الإنساني ومتطهراً من الأنانية والنرجسية وانزلاق البطل في العادة نحو ادعاء العصمة واستعارة أسماء الله الحسنى وصلاحياته الشاملة لمختلف شؤون الحياة وعقوبات ما بعد الموت..
ولقد عاش نلسون مانديلا في ذاكرتنا »بطلا عربياً«، فلما وصل الى السلطة اكد جدارته بهذه المرتبة، فحفظ لمن ساعده من العرب، دولا وأفراداً، حقهم ورد اليهم الجميل في مواقف مشهورة كانت امتداداً لسيرته الكفاحية في مواجهة القوى المهيمنة العاتية: فلم تكن مصادفة ان يكون ضيفه الشخصي الاخير (كرئيس) هو قائد ثورة الفاتح معمر القذافي، ولا كانت مصادفة اصراره على اعلان صداقته الثابتة لكل من ليبيا والعراق وإيران وكوبا (وهي متهمة جميعاً بالارهاب من طرف »السيد« الاميركي).
وفي مقابلة تلفزيونية لعلها كانت الاولى معه بعدما تولى السلطة، اعلن نلسون مانديلا، بصراحة قاطعة: هناك عدد قليل من الدول التي ساعدتنا اثناء سنوات نضالنا، مثل سوريا وكوبا وليبيا… ونحن نساعد سوريا بالسلاح لنرد لها ديناً في اعناقنا«.
اما بين اطرف ما سمعته فكان من بعض الامراء السعوديين، اذ فاجأهم وهم في وفد رسمي لتهنئته بالقول انه سيطلب منهم خدمة بسيطة، وهي ان يسمح له بتمضية اجازة اسبوعين في المملكة. ووسط دهشة الامراء اوضح مانديلا: ذلك هو المكان الوحيد، ربما، الذي استطيع ان امضي فيه بضعة ايام من الراحة، من دون ان يكتشف الناس وجودي فيه فيحرمونني فرصة ان اخلد الى نفسي، وان اتأمل وسط السكون الصحراوي المهيب،
وبالفعل جاء مانديلا الى السعودية، وأمضى عشرة ايام او يزيد، في »مزرعة« في الصحراء، يتأمل ويعيد ترتيب افكاره لمواجهة المهمة الشاقة الي كانت تنتظره: الحكم!
على ان العرب لم يتعلموا من بطلهم المفترض، الكثير..
لم يتعلموا، خاصة، ما تعلمه مانديلا من نصائح معلمه خونغنتانا:
»ان القائد يجب ان يكون كالراعي، يوجه قطيعه من الخلف. واذا ضحل حيوان او اثنان فعليك ان تذهب وتعيدهما الى القطيع. هذا درس مهم في السياسة«.
او: »الانسان بالاخرين. لايمكنك ان تفعل اي شيء اذا لم تحصل على دعم الناس«.
او: »الحرية ليست فقط في منح الناس حق التصويت، بل هي البوابة لمعرفة الكثير من المشكلات كالجوع والفقر والمرض والتخلف«.
أو: »فكرة القيادة الجماعية صعبة جدا. فمن الصعب على رجل أن يتخيل نفسه واحدا من آخرين. وهكذا تعلمنا العمل الجماعي. ومن الصعب عليّ أن أشير الى إنجازات شخصية، لأن أي شيء نجحت في تحقيقه إنما يعود الى القيادة الجماعية«.
يترك السلطة ليستقر في التاريخ هاديا للحاكم قبل المحكوم، بطل الضعفاء الذين إذا انتبهوا الى مصادر قوتهم في داخلهم غيّروا العالم.
هذا رجل ممن غيّروا العالم وتمتعنا بشرف اننا عشنا في عصره، وانه كان بطلاً لنا أيضا.. ولكننا لم نكن دائما نستحق »زمالته«.

Exit mobile version