طلال سلمان

حلم لأربعين سنة أفضل

توقفت الفتاة ذات السنوات العشر أمام صور لأجدادها كانت تحتفظ بها أمها على قرص ممغنط وأخذت تسألها عنهم: هذه جدتي . لقد عرفتها لأنك نسخة طبق الأصل عنها، فمن هم الذين توزعوا من حولها وكأنهم في احتفال..
قالت الأم: إنها عائلتي، وكنتِ واحداً من أحلامهم..
سألت الفتاة: وما الحلم؟
قالت الأم: ماذا تتمنين أن تكوني عندما تكبرين؟
قالت الفتاة: أريد أن أكون أنتِ..
ردت الأم: ولكنكِ أنتِ ولست أنا. أنت ابنتي، وأنا أمك. نحن اثنتان لكل منهما شخصيتها، وكثيراً ما سمعتك تقولين انك لا تريدين أن تكوني مثلي.. فأنت ترينني ضعيفة وتريدين أن تكوني أقوى.
قالت الفتاة: ولكنني أريد أن أكون أنتِ، إنما أقوى..
قالت الأم: ترينني ضعيفة لأنني احبك، مع غيرك لا أكون ضعيفة أبداً. في عملي لست ضعيفة، وفي علاقاتي مع الناس لست ضعيفة، بل يتهمني البعض بأنني أقوى مما يجب.
سألت الفتاة: وهل أكون ضعيفة إذا أنا أحببتك؟!
احتضنت الأم ابنتها وهي تقول: لا تخافي، الحب يمنحك القوة، وكلما أحببت أكثر صرت أقوى.
عادت الفتاة تسأل: انأ أحب رفيقي وليد، وأحب رفيقتي ليلى، وأحب معلمتي سامية.. أنا قوية!
قالت الأم وهي تحتضنها: أجل، أنتِ قوية. أتعرفين لماذا ؟ .. لأنك تعرفين وأنت في العاشرة من عمرك ما لم اعرفه حتى حين بلغت العشرين من عمري، ولم يعرفه أبي إلا قليلاً، أما جدي فقد مات قبل أن يعرف ما تعرفين، لان العلم تقدم كثيراً، فكشف حقائق كنا نجهلها. صرنا نقرأ كتاب السماء. نعرف الكواكب بأسمائها، والمسافة إلى كل منها. وصلنا إلى بعضها، وما زال العلماء يعملون في مختبراتهم ليعرفوا ما تبقى من أسرار الكون..
قالت الفتاة: عندما نزور قرية جدي أفرح برؤية النجوم. إنها هناك أوضح، وأحيانا أشعر أنني يمكنني أن أتحدث إليها.. ومرة غمزتني نجمة، ومرة لاعبتني نجمة أخرى الغميضة، وحين سألت المعلمة قالت لي إننا قريباً سنقرأ الضوء، بل ربما سنكتب بالضوء.
قالت الأم: عرف جيلنا أسرار الكثير من النجوم.. جيلكم قد يطير إلى بعضها الأبعد فالأبعد..
قالت الفتاة: قرأت على جهاز التواصل مع الفضاء أسماء العديد من النجوم ومدى بعدها عن الأرض. من أعطاها أسماءها؟!
توقفت عن الكلام لحظة ثم قالت: أحب أن أصل إلى نجمة فأعطيها اسمي..
تنهدت الأم وهي تقول: علمني جدي أسماء الكثير من النجوم، وكان يتعامل معها كأصدقاء له. كان يتخذها دليلاً في طريقه إلى القرى خلف الجبل.
شهقت الفتاة: يعلموننا النجوم بأرقامها الآن..
أكملت الأم تقول كالحالمة: وكان القمر الرسول بين العشاق، وحين يصير بدراً يكتب الشعراء قصائدهم فتسمعها حبيباتهم..
سألت الفتاة: وما الشعر؟!
اختارت الأم الأسهل من الأجوبة: الشعر هو الموسيقى، وهو مثل النجوم التي تحبينها، يأخذك إلى أحلامك الأجمل، ويطربك لأنه يخاطب وجدانك.. يخاطب فيك حب الحياة. الحياة جميلة. بالنسبة إلي. صوتك موسيقى تنعشني وتطربني .. ولأنني أحبك أغني لكِ لتنامي، وأغني لأعبر عن فرحي بوجودك. وأغني أحياناً لأعبر عن حب الحياة وأهلها.
قالت الفتاة: أريد أن أغني لكِ لأنني أحبك. علميني.
قالت الأم: الشمس جميلة، القمر جميل، أنت جميلة، وكثير من الناس حولنا يحبوننا ونحبهم. الحياة حب. حب الناس. ويمكنك أن تغني كلماتك. قلبك سيعطيها الموسيقى. جربي.
هتفت الفتاة: أحبك يا ماما.. أحبك يا ماما..
ثم أخذت تترنم بها، ترفع صوتها حيناً وتخفضه حيناً آخر، حتى ابتدعت لحناً خاصاً بها.
انتعشت الأم فقالت: الحب يجعلك تغنين. النجاح يجعلك تغنين. شعورك أن رفيقاتك ورفاقك في الصف يحبونك، وأنك أيضاً تحبينهم يجعل صوتك رقيقاً وجميلاً كالغناء. الناس طيبون. كل من يحب هو إنسان طيب. ونحن نحب الناس فتصير حياتنا أجمل .
قالت الفتاة: ولكنني لا أحب مدرّس الرياضة. أنه يفرض عليّ حركات متعبة.
قالت الأم: هو يريدك أن تنجحي. النجاح يتطلب التعب. لن تنجحي إذا كنت كسولة وبليدة الحركة. أنه يريد لك الخير.
قالت الفتاة: أحببت العصافير بألوانها الكثيرة وزقزقاتها. كان بينها طائر جميل، جميل الصوت. أحببته أكثر.
قالت الأم: ستحبين الأرض، غداً، ستحبينها بأهلها، وحيواناتها الأليفة، البقرة، الحصان، الحساسين، البلابل، والقطط والكلاب المخلصة. الأرض هي هويتنا..
سألت الفتاة: وما هي الهوية؟
قالت الأم: لون بشرتك، لون عينيك، اسمك، أهلك، بآمالهم وأحلامهم. طموحك لان تصيري ما تحبين أن تكوني، وان تعيشي في بلادك ولبلادك.. وطنك. العالم واسع جداً، لكن لكل شعب وطنه. الوطن هو الأرض وناسها. الأرض مقدسة. تعطينا ملامح وجوهنا.
عادت الفتاة تسأل: هذا يعني أنني أشبه الأرض؟
ابتسمت الأم بسعادة وهي تقول: جميلة مثلها، بجبالها العالية كجبينك، بسمرتها كبشرتك، بالخير فيها كما أنتِ لي… الأرض هي الماضي والحاضر والمستقبل. هي نحن، تاريخنا، أجدادنا، أهلنا. الأرض هي أمنا جميعاً، تحضننا، تطعمنا، تؤوينا، منها هويتنا وفيها حياتنا اليوم وغداً. نحفظها فتحفظنا. لا نسمح لغريب أن يأخذها منا. من أجلها يجب أن نكون أقوياء لنحميها، ويجب أن نبقى فيها لأنها أمنا.
قاطعتها الفتاة: ولكنك أنت أمي..
ردت الأم: نعم، ولكن الأرض أمنا جميعاً. نعيش فيها وبها. تطعمنا من قمحها. تمنحنا بشمسها بشرتنا ولون العيون. هي مأوانا ومصدر عزّتنا. علينا أن نحفظها وإلا جاء العدو فأخذها.
سألت الفتاة: ومن هو العدو؟
حاولت الأم تبسيط الإجابة: العدو هو غريب، جاء من بلاد بعيدة، وكان معه سلاح كثير، طائرات ودبابات، أخذ بالقوة أرض فلسطين. وجعل اسمها إسرائيل. هي فلسطين. اسمها فلسطين. تاريخها فلسطين. بالقوة جعلها إسرائيل.
قالت الفتاة: أنا أحب فلسطين ودمشق، وأحب القاهرة.
قالت الأم: وعندما تكبرين ستعرفين بغداد والكويت، وصنعاء وتونس ومراكش، وستحبينها. بلادنا جميلة.
قالت الفتاة: أنا أحب بيروت وأحب الضيعة في الجنوب وفي البقاع وفي الجبل. أحب طرابلس والشمال. أحب لبنان.
قالت الأم: كلنا نحب لبنان ونحب العرب ولا نكره أهل البلاد البعيدة. وحدها إسرائيل هي العدو. منذ ست وستين سنة بل أكثر وهو يعتدي على العرب، كنا ضعفاء وهو قوي. اليوم صرنا أقوياء وهو لا يجرؤ على الاعتداء على أرضنا، على مدننا وقرانا. مقاومتنا منعته من الاعتداء علينا.
سألت الطفلة: وما هي المقاومة؟
قالت الأم: إن جاء أحد وأخذ بيتك، هل تسمحين له؟ بالطبع لا. العدو هو من يجيء ليأخذ بيتك بالقوة، وعليكِ أن تقاوميه. مَن ظلمك قاوميه، ومن منع عنك حقوقك قاوميه.
قالت الطفلة: لن أفتح له الباب.. ولا بعد أربعين سنة، وسأدافع عن بيتي وبالعصا.
في الصباح التالي بادرت الطفلة أمها بسؤال: ماما.. لقد حلمت في نومي أنني كبرت فصار عمري أربعين سنة. يوم يصير عمري أربعين سنة لن اذهب إلى المدرسة..
قالت الأم : ولا إلى الجامعة، ستكونين في عملك.
ضحكت الفتاة وهي تقول: حلمي أن اذهب مثلك إلى العمل، كل صباح. في الليل أحلم، وفي النهار أعمل … لكن الحلم أجمل.
ردت الأم: كلنا نعمل ليصير الحلم حقيقة، فيصير لبنان وطناً، ويزول الخوف، عسى أن يتحقق ذلك في أربعين سنة. أربعون؟ هذا كثير.. لكن الوطن يستحق .

Exit mobile version