طلال سلمان

على الطريق العيد الآتي باسم الحجارة!

كل عام وأنتم بخير: خذ حجراً فاقذف به عدوك واحتفل، فهذا يوم عيدك المرتجى أيها اليتيم من الأعياد وهداياها، أيها الممنوع من الفرح ، أيها المحروم من النصر وراياته المشتعلة بدمك!
هذا عيدك في فلسطين، أي في كل بيت عربي،
فليس من اسم المكان أو لشخص أو لرمز مقدس عاش في الوجدان العربي واستوطنه حتى صار بعضه كاسم فلسطين،
ليست فلسطين بلداً، بل هي الأمة… بل لقد تأنسنت فاكتسبت ملامح الأم التي تحت أقدامها الجنة.
وليست فلسطين تلك الرقعة من الأرض المحددة والمحدودة في ما بين النهر والبحر، بل هي كل حبة رمل، كل كمشة تراب، كل صخرة وهضبة وتلة وجبل، كل شجرة وزهرة ونهر وساقية وعين ماء في ما بين المحيط والخليج،
فلسطين هي القضية وهي القصيدة، هي التاريخ وهي الأغنية، هي الثورة باعتبارها فجر الغد الأفضل وعنوانه، أولست هي صرخة الحرية وهي راية الوحدة، وهل يكون لك مستقبل إلا بهما؟!
وفلسطين هي الظلم والاضطهاد والبؤس والحرمان من مختلف الحقوق الطبيعية لإنسان القرن العشرين،
وبهذا المعنى فكل عربي، هو “فلسطيني” مع تعطيل معنى “الفلسطينية” كهوية ثورية… فالدولة ليست جواز سفر فحسب، والمهم أن يقر “أصحاب الدولة” بوجود الإنسان ليكون له من بعد جواز سفر!
وإذا كان “الفلسطيين” قد حرم فرصة التعرف على صورة الدولة ومعنى الوطن المستقل، فإن العربي في مختلف أقطاره كثيراً ما تمنى لو تسقط “دولته” ولو يخسر استقلاله الشكلي والعلم المزركش الذي يشكل فاصلاً إضافياً بينه وبين أخيه ابن أمه وأبيه الذي اختار أو اختارت له أقداره أن يكون في الجهة الأخرى من الأكمة عند ترسيم الحدود “الدولية”!!
عيدك اليوم والانتفاضة تبدأ عامها الثاني بعد الخمسين، بعد الستين، بعد السبعين،
فلم ينفصل اسم فلسطين عن الثورة منذ أن صار لفلسطين اسم في العصر الحديث. الثورة ضد المشروع الصهيوني. الثورة ضد وعد بلفور. الثورة ضد سلخها عن سورية. الثورة ضد الانتداب البريطاني. الثورة ضد تواطؤ المنتدب البريطاني مع حلفائه وأبناء مجتمعه الغربي الذين أعدتهم الحركة الصهيونية تحت إشرافه المباشر لاختلاس فلسطين… ثم الثورة ضد الكيان الإسرائيلي. الثورة على أنظمة الخيانة العربية. الثورة على التخلي العربي. الثورة على القيادات المنحرفة في الداخل والخارج. الثورة على مشاريع إعادة الأرض العربية إلى مناطق النفوذ. الثورة على الأحلاف الأجنبية. الثورة ضد المتخاذلين والانهزاميين المرتبطين بالأجنبي. الثورة ضد أعداء مشروع الوحدة. الثورة على الانفصاليين بوصفهم أعداء لفلسطين. الثورة من أجل تحرير الأرض العربية كلها، من جزائر الاستعمار الفرنسي إلى يمن العهد المتوكلي البائد، ومن عراق نوري السعيد إلى ليبيا العهد السنوسي الملثل الخضوع لقوى الهيمنة الأجنبية.
كان الفلسطيني هو “العربي” بامتياز.
وكان العربي الطبيعي يحس نفسه فلسطينياً بالضرورة،
فكل الأحلام تبدأ بفلسطين وتنتهي بها، وكل حقائق الحياة تبدأ بها وبها تنتهي… فأية وحدة، من دون فلسطين، وأي تحرر؟
بل أية “عروبة” إذا كانت إسرائيل هي القائمة سداً فاصلاً بين المشرق والمغرب، وعنصراً لاغياً “لاستقلال” أي قطر عربي، وبالتالي لهذه الدويلات التافهة والعاجزة التي تتوالد كالفطر تعبيراً عن الإفلاس والتردي والاستسلام لمنطق الهزيمة وليس توكيداً لتحرير الأرض أو الإرادة بأي حال.
ففلسطين هي حبل السرة، هي الرابط وصلة الرحم، في الجغرافيا كما في المصالح، قبل أن نصل على العواطف ومعاني العزة والكرامة والسيادة الوطنية والقومية!
وطالما استمر غياب فلسطين فإن العروبة تظل في موقع ما بين الحلم وبين الوهم وبين الاستعادة اليائسة لماض مضى وانقضى ولن يعود.
… ولأن فلسطين والثورة توأمان، تماماً كالوحدة، والحرية، فكل عربية يرى لنفسه دوراً فيها ويعطي لنفسه بالتالي حق المناقشة من الداخل وليس من الخارج،
فعلى أرض فلسطين تقرر في الماضي حاضره، ويتقرر اليوم مستقبله،
وإذا كان “الفلسطيني” ضحية الأنظمة العربية التي عجزت عن منع إقامة الكيان الإسرائيلي، وعجزت من بعد عن مواجهته، والصمود أمام جبروته العسكري، ناهيك بالانتصار عليه، فإن كل “عربي” بين المحيط والخليج هو الضحية مرتين: مرة لعجز الأنظمة ومرة للقمع الذي يستولده عجز أنظمة الهزيمة هذه.
إنه يحمل عاراً مضاعفاً،
فهو موسوم بالهزيمة، يحمل دمغتها فوق الجبين، ثم إنه متهم بخيانة أخيه الفلسطيني، ثم يبقى بعد هذا كله رهينة للأنظمة إياها التي أضاعتها وأضاعته!
وإذا كان مفهوماً أن تستنفر فيه الأنظمة كيانيته لتشغله بنفسه عن مصيره، وأن تغذي فيه النعرة الإقليمية لتتحصن هي خلفها تمدها بأسباب الحياة لتستمد منها أسباب الاستمرار، فلقد كان يؤمن أن الثورة لا بد ستضرب هذه الحلقة الجهنمية فتكسرها لتحررهاز
لكن المناخ المسموم اجتاح صفوف الثورة أيضاً، فأخذ ينهش راياتها واحدة بعد الأخرى حتى صيرها نظاماً إضافياً له من مبررات الكيانية أكثر مما لها، وله من أسباب العطف ما تفتقده.
هذا حديث شجن في يوم عيد! فلنطو صفحته، ولنهجراللغة البائدة التي ما عادت معيها فتفهمها عقول أجيالنا الطالعة التي تربت في حضن الإقليميات والكيانات “الوطنية” القائمة دولاً حدودها مع الأخوة خنادق من دم، أما العدو فلم يرسم له حدوداً إلا مدى دباباته والطائرات وعجز المواجهين!
ولكنها الانتفاضة..
ولكنها فلسطين،
فليكتمل النشيد القديم مع انبلاج الفجر الواعد الجديد الذي سيكشح – عبر المعاناة والألم – ضباب الأوهام الذي يغطي الأرض فتضيع من الركب الطريق..
دع حجرك طليقاً، ارسله بمدى العزم في يمينك واتبعه، من أرضك هو ولن يقع إلا في أرضك.
كل العواصم في الدنيا ومن حولك، من زجاج، فارشق حجرك طليقاً واتركه يحدد مساره والهدف. هو لا بد سيصيب. وسيأتي من بعد يوم الكلام لا باس، أيها الصابر الدهرن من شيء من الصبر، من يصنع تاريخاً لا يتعجل علامة المدرس على فروض الإنشاء!
لقد أعطيت للأيام أسماء عربية، فهذه سنتك وكل يوم منها يحمل علامة من دمك.
صارت للحجارة أسماء عربية،
صار للثورة اسم عربي اقتحم لغات الأرض جميعاً: الانتفاضة،
كانت إسرائيل النقيض اللاغي لفلسطين، على امتداد الأربعين سنة الماضية،
… وها هي فلسطين تستعيد ذاتها فتلغي من إسرائيل مساحة المشروع الإمبراطوري، وتفرض عليها أن تغير جلدها وطبيعة انتمائها أو يتهددها الزوال، كما حدث لدول الصليبيين من قبل،
وكانت أنظمة الهزيمة تعيش وتفرخ في ظل الاستكانة للهزيمة.
وها هي الآن تتراكش خلف “رعاياها” تمنحهم بعض الحق في التنفص، في إطلاق الأخ الحبيس، في رفع الصوت بتمجيد “ظل الله على الأرض” وخليفته فيهم!
فلماذا الاستعجال؟!
لا الأطفال يتناقصون، ولا الحجارة يمكن أن تنتهي، فلماذا الدوران حول الكرة الأرضية للوصول إلى فلسطين وأنتم فيها وهي فينا جميعاً، تعطينا الاسم والهوية وكرامة البشرة السمراء؟!
لست وحدك، فلا تتركنا وحدنا. إذا استفردوك هزموك.
إذا هم استفردوك احتووك، يغرونك بالاستقلال عنهم فإذا أعلنت استقلالك ارحتهم منك ومنا، وارحت عدوك الإسرائيلي، وارحت الأعداء الآخرين الذين نصبوا علينا موانع التقدم والتحرر والوحدة، كعناصر إسناد للكيان الصهيوني.
اصمد للإغراء والغواية، ألا ترى فتتعظ بما أصابنا؟!
ما الدولة إن لم تكن دولتك أنت، لا دولة حاكمك؟! وما العلم إذا كانت الصورة أهم منه وأقدس؟! وما النشيد إذا كان اجتراء على التاريخ وتزويراً له بدل أن يكون حداء لقافلة تقدمك نحو غدك الأفضل؟!
الارض أغلى من الدولة وأبقى. كن الأرض الباقية لا حكومة اللامكان وجميع الأزمنة.
لا تساوم على أرضك. لا تبعها مقابل الدولة. هذه هي الدول من حولك طوابير من الجياع والحفاة والسفهة المبذرين ثروات أمتهم على ما لا ينفع غلا عدوها – عدوك.
لا يساومن بعضك على بعضك حتى لا تكتشف عندما ينتهي البازار إنك “خلصت” وإنه لم يتبق منك ما يستحق أو ما يقدر أن يأخذ شيئاً!
فلسطين هي فلسطين، خذ منها ما تستطيع، ولكن إياك أن تتنازل عن الباقي ليس خمسها بأغلى من أربعة أخماسها الأخرى، وليس ربع شعبها بأعز من الثلاثة أرباح الباقين.
اكسر بحجرك الحصار. الكل مرتاح لأن تبقى حيث أنت، والكل سارع إلى “القمة” لكي لا يفلت حجرك فيصيب منهم مقتلاً.
الكل يريدك أن تبقى وحدك. بعضهم فك الارتباط معك، وبعضهم أكد الارتباط مع عدوك وتبرع بالوساطة بينك وبينه. والبعض الآخر هز رأسه راضياً وهو يغريك بالانتحار: قرر ما تراه ونحن معك! أنت صاحب القضية فلن نزايد عليك، لك القرار وعلينا الدعم والتأييد والمباركة!
إنهم يتنصلون ويورطونك ليتهموك من بعد بأنك من فرط ومن باع معظم أرضه وحق أجياله الآتية.
هذه ليست نصائح أو مواعظ يتبرع بها فرسان الحمل الثورية،
إنها خلاصة دروس وتجارب تحترق في أتونها أمة كاملة فتكاد تفقد هويتها وتاريخها وتفتقد طرقها على غدها.
لقد أضاعونا في الركض وراء السراب والأوهام حتى خسرنا مع الحقائق أحلامنا السنية.
فاياك أن تستبدل بالوهم حلم الأجيال، من سبق ومن ينتظر، والآتي مباركاً باسم الرب.
احم بالحجر حلمك. احم بالحجر أرضك. احم بالحجر اسمك.
واحم بالأمة فلسطين.
ففلسطين عظيمة بأمتها لا عليها،
والخروج من حلبة الثورة يدخلك إلى حماة الحرب الأهلية وليس إلى الدولة المرتجاة.
ليست وحدك،
وإذا كانت الأنظمة عليك فإنها علينا أيضاً،
ولكنك الأمة، باسمها تضرب، باسمها تقاوم، باسمها تقتحم الدنيا، القهر واحد، فليكن الحجر واحداً.
لست وحدك. فلا تترك كلامنا وحده. أنت الرابط وأنت الجامع لأنك القضية. فاحم قضيتك بنا واحمنا بوحدة قضيتنا.
مبارك حجرك يا صاحب العيدن مبارك عيدنا يا ضارب الحجر.
فحتى في لبنان الجريح، لبنان المقاوم، لبنان الممزقة جوانبه بسيوف أصحاب المشاريع التقسيمية، لا نرى لنا عيداً وسط ظلام الحرب الأهلية إلا عبر الفجر الذي اصطنعه حجرك المقدس.
فعيدنا يجيء من جبل عامل، ومن جنوبه وجنوب الجنوب حيث الحجارة مضمخة بأنفاس المقاتلين ودمائهم وعطر زهر الليمون الذي جاءنا أيضاً من حيث يولد العيد المجيد.

Exit mobile version