طلال سلمان

الترف اللبناني وبيان »الثمانية الكبار«

كثير على لبنان كل هذا الترف الذي يمارسه الأطراف جميعا، سواء على مستوى السلطة ومعارضيها، أم على مستوى زواره وضيوفه الأجانب، أم على مستوى السفراء المعتمدين لديه..
كثير على لبنان كل هذا الترف، خصوصا في هذه اللحظة السياسية: أن ينشغل ويشغل الآخرين بتفاصيله المحلية المملة، وبالخصومات والمكايدات والنكايات وحملات التشهير والتشهير المضاد التي لا تكاد تستثني أحدا، فتشلّ أو تربك المؤسسات جميعا، السياسية منها والقضائية، الاقتصادية والإدارية، وتزيد من حدة الشعور بالضيق الذي يعاني منه المواطن، في أسباب معاشه كما في تصوّره لمستقبله..
… هذا بينما في إسرائيل يتحول تشكيل الحكومة الجديدة، بعد الانتخابات النيابية المبكرة، إلى فرصة للمراجعة الشاملة، والمحاسبة السياسية الشاملة، لإعلان السقوط النهائي لمرحلة نتنياهو، المتطرف الغبي والمهووس بالقوة، تمهيدا لترميم صورة الكيان الصهيوني وأسباب قوته داخليا وخارجيا.
إن كل القوى، من أقصى التطرف الديني، إلى أقصى التطرف السياسي، تراجع تجربتها وتخوض نقاشاً حاداً ومطولاً لإعادة صياغة البرنامج العملي للحكم، بما يتناسب مع طبيعة التطورات الدولية آخذة بالاعتبار انعكاسها على الأوضاع العربية، ومن ثم على »العملية السلمية« أو ما تبقى منها.
(في أي حال فلنا هنا تميّز فاقع على إسرائيل: لقد تمّ تشكيل حكومة العهد الأولى، بما في ذلك الاعتذار وإعادة التكليف، في أقل من أسبوع… أما المراجعة أو المحاسبة فواضح أنها ستمتد لسنوات..).
وحتى من قبل أن تشكل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، كان العالم ممثلاً بقادة مجموعة الدول الثماني (السبع الأقوى والأغنى مضافة إليها روسيا، كعزيز قوم ذل..) يبحث مستقبلنا ويقرر لنا إلى حد ما معلنا اصطفافه بالتأييد من خلف النجم الإسرائيلي الصاعد إيهود باراك.
ومع أن وقتنا في لبنان ضيق، فلا بد أن يستوقفنا بيان هذه المجموعة التي تلاقت لإعلان نهاية الحرب بالانتصار على يوغوسلافيا، وما تضمنه من دعوة »إسرائيل والفلسطينيين إلى التقدم بسرعة نحو السلام، وإسرائيل وكل من سوريا ولبنان الى استئناف المفاوضات في أسرع وقت«.
ولقد حددت هذه المجموعة »مهلة سنة لمفاوضات الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية«، مع إشادة بالتصريحات المشجعة لرئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب إيهود باراك… ومع التوكيد على أن السلام والأمن كما احترام حقوق الإنسان تشكل عوامل حاسمة من أجل تسوية دائمة وشاملة تسمح للفلسطينيين بالعيش كشعب حر على أرضه«.
كذلك فقد تبارى قادة هذه المجموعة في امتداح باراك وإعلان التأييد المفتوح له، ووصل الأمر مع رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير إلى حد القول: »انه شخص يلقى احتراما كبيرا، واثق أنه سيبدأ رئاسته للحكومة بمساندة دولية أكبر مما يمكنكم تصوره«.
المعلن أقل من المضمر، حتما، والحكومة الإسرائيلية الجديدة ستباشر حركتها ومنذ اليوم الأول بخطة عمل تفصيلية ومدروسة أشبعت نقاشا، وأطقم المفاوضات معروفة وملفاتها جاهزة تماما، أما المناخ الدولي فهو مؤات ومشجع ومساند ولا يخفي شبهة اتهامه بالانحياز والالتفاف حول »فارسه« المؤهل إيهود باراك المنتصر على الرجل الذي استعدى العالم كله واستخصمه: بنيامين نتنياهو.
أما نحن، في لبنان، فمستمرون في ممارسة ترف يزيد عما يمكن قبوله أو احتماله أو تبريره، في ضوء ما ينتظرنا من تحديات ومخاطر.
كثير على لبنان أن يضيّع أسبوعاً ثميناً في متاهة »بيان المصادر الوزارية«: بعض الحكم يصدره، وبعض منه يتبناه، وبعض ثالث ينكره ويتنصل منه، وبعض رابع يرفض أسلوبه ولكنه يطالب الآخرين بمناقشة مضمونه، بعض يطالب بكشف المسؤول عنه وأدانته، وبعض يبلغ الناس أنه عاقبه بغير أن يكشفه وبغير أن يدينه، متعهداً بألا ينشر، بعد اليوم، رسمياً إلا ما يحمل توقيع كاتبه أو قائليه،
خلال هذه المتاهة اشتبكت الحكومة بالنواب، فهددوها وردت التحدي ملوحة بطرح الثقة لإجبارهم على ابتلاع ألسنتهم ورفع أيديهم، كما سبق أن فعلوا، وتبديل تصويتهم، كما سبق ان فعلوا..
وكثير على لبنان أن تعلن فيه مواقف رسمية لضيوف رسميين تتعارض مع مواقفه المعلنة من القضايا المطروحة، سواء أكانت داخلية أم عربية، أم تتصل »بعملية السلام«،
وكثير على لبنان هذه الحركة الواسعة والمطلقة من أي قيد للسفراء المعتمدين فيه، والتي تخطت وتتخطى كل التقاليد الدبلوماسية المتبعة، لا سيما منهم الفرنسي المتهم الآن بمحازبة العهد الماضي، والأميركي الذي تخطى في جولاته وعلاقاته »الشعبية« اللبنانيين بالتأسيس الى اللبنانيين بالتجنيس، وتخطى في اهتماماته الشؤون السياسية والاقتصادية ليصل إلى البقر وأنواعه والحليب ومشتقاته والبدو وكرم الضيافة في مضاربهم والخيام!
كثير على لبنان هذا الترف، بحيث يصعب أن نتصور أننا استبقينا من الوقت ومن الاهتمام ما يكفي للتحضير لمرحلة إيهود باراك الآتي بكل هذا الزخم الدولي،
كثير على لبنان هذا الترف،
وكثير على سوريا، شريكة المصير والقرار، كل هذا الترف اللبناني،
فهل كثير أن نتمنى على المسؤولين إخراجنا من أزمة »المصادر الوزارية« للاهتمام بالقضايا المصيرية التي تفرض نفسها علينا، ولا تحتمل التأجيل؟!
… برجاء قراءة النص الحرفي للبيان الذي أصدره قادة الدول الثماني، بعد اجتماعهم على مستوى القمة، في مدينة كولونيا بألمانيا، يوم أمس.
وبرجاء أن نقرأه هنا وبالدقة التي تتميز بها دمشق وقيادتها الممتازة.

Exit mobile version