طلال سلمان

على الطريق “يَمنك يُمنك يا زايد”!

صبيحة يوم الجمعة في التاسع عشر من كانون الأول 1986، حملتنا سيارة من مبنى وزارة الأعلام اليمنية في صنعاء العاصمة إلى “وادي أذنه” في المنطقة المعروفة بـ “ارض الجنتين” لنشهد الولادة الجديدة لسد مأرب… القديم!
كان شعب اليمن قد انتشر على طول الطريق، بعضه في الحافلات والشاحنات والسيارات، والبعض الآخر مشياً على الأقدام، والكل يستظل اللافتات التي تحمل عبارات الشكر والامتنان لباني السد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
لا ألقاب في اليمن. لذلك كان الكل يتحدث عن “السد” و”زايد” ويربط بينهما، ولولا احترام التاريخ والرغبة فيإثبات الأهلية مجدداً لكان اليمنيون قد أطلقوا عليه اسم بانيه فصار “سد زايد”.
على هامش الاحتفال الرسمي، وحتى ضمن الخطب “الرئاسية”، تزايدت الإشارات إلى الأصل اليمني لقبيلة “بني ياس” التي ينتمي إليها رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة… وكان “زايد” سعيداً بيمنيته المستعادة كما بالسد المجدد بعد 1561 سنة من انهياره المريع خصوصاً وقد دمّر حضارة مملكة سبأ بكاملها.
وعندما ضغط “زايد” مع “علي عبد الله صالح” على الزر، وتدفقت المياه من الأنفاق وعبر القنوات المكشوفة لتملأ السد، أطلق العديد من اليمنيين الرصاص ابتهاجاً، وترددت أصداء زغاريد وامتلأت بالدموع الأخاديد الغائرة في الوجوه العجفاء للرجال الذي نسبهم الزمان خلفه.
وعلى مدى النظر كان الرجال قصيري القامة ضئيلي الأحجام يتقافزون فوق الصخر، وكأنهم نبتوا فيه أو قدوا منه، يحزم واحدهم وسطه بالخنجر التقليدي ذي العقفة في أسفل غمده، ويتنكب “بندقه” ويعتمر عمامته فوق ثيابه البسيطة التي تشهد بأنه إنما ورثها عن جده الذي عاصر السد الأول فأبقاها بغير تعديل أو تبديل.
كان اليمن “سعيداً”، للمرة الأولى منذ دهور،
وكان زايد بن سلطان يستقر في وجدان اليمنيين فيضيفون إلى اسمه اللقب الذي استولدته اللحظة فيغدو “زايد الخير”. وكان ثمة من يهتف بغير تكلف “يمنك يمنك يا زايد”…
لماذا هذه العودة بالذاكرة إلى يوم مضى ولن يعود؟!
لأن الحرب على اليمن تكاد تذهب باليمن واليمنيين، إذ لا يبدو أن ثمة مَن هو معني بإيقافها، لا على مستوى “الدول العظمى” ولا حتى على المستوى العربي.
لكأن الكل كان يعمل للحرب لأنه مستفيد إما من الحرب ذاتها أو من نتائجها المتوقعة والمتوخاة: فمن طامع ببعض أرض اليمن، وهو طامع ويعبّر عن طمعه علناً و”على الأرض” حتى من قبل أن يظهر فيها النفط فكيف الآن والنفط قد بدأ يضخ ذهباً، إلى طامع بالهيمنة على الجزيرة العربية والخليج معاً وشرط استتباب الهيمنة القضاء على احتمال قيام اليمن كدولة مركزية قوية في تلك المنطقة ذات الأهمية الفائقة استراتيجياً.
فمع انطلاق الرصاصة الأولى في هذه الحرب على اليمن، بشر مسؤول أميركي كبير كان – بالمصادفة!! – هناك، إنها حرب مفتوحة وستطول. وأنها ستدمر الشمال كما الجنوب، وأنها لن تجد من يعمل لحصرها، ثم أنها لن تنتهي بمنتصربل بمغلوبين على الضفتين.
هي إذن حرب “دولية”، أو مطلوب “تدويلها” منذ اللحظة الأولى،
وهي قد فجرت بقرار وبقصد مقصود وبتشجيع من “دول” لها مصلحة مباشرة فيإنهاك العرب وبعثرتهم أيدي سبأ.
وهي قد فجرت بذرائع محلية ، بينها النزعة الانفصالية المموّهة بالصراع على السلطة، أو الصراع على السلطة المموّه بالادعاءات الوحدوية، لكنها وقعت في لحظة ليس للعرب مرجعية أو قيادة أو قائد تاريخي مؤهل لأن يرمي بثقله ويطلب فيُطاع.
لا مرجعية عربية ولا قيادة عربية، لا كمؤسسات (وها هي الجامعة تتحوّل إلى حائط مبكى وعلبة بريد وتعجز عن لعب دور الوسيط، بينما يُفرض على مجلس التعاون الخليجي موقف منحاز من شأنه أن يسعر الحرب وأن يرمي مزيداً من الخطب للنار الحارقة) ولا كقيادات موثوقة ونزيهة ومنصفة تشفق على ذلك القطر العربي البائس الذي بالكاد عرف الطريق للخروج من جاهلية القرون الأولى إلى آفاق القرن العشرين.
ثم إن “الانفصال” مصلحة دولية أساساً، و”عربية” بمعنى توافقها مع أغراض معظم الأنظمة العربية التي “تخزن” أحقادها منذ حربي الخليج، الأولى ثم الثانية، والتي وجدت الفرصة سانحة للخلاص من “مشروع يمن قوي” بذريعة الانتقام من رئيسه علي عبد الله صالح… تماماً كما استغلت حماقة صدام حسين في الكويت للخلاص من “العراق القوي”، ثم أبقي الطاغية الضعيف ليلغي احتمالات قيامه العراق.
وحده الشيخ زايد بن سلطان يملك الأهلية والشجاعة والبراءة الضرورية للقيام بمبادرة تنقذ ما يمكن إنقاذه من اليمن واليمنيين ومن ماء الوجه العربي!
وحده ليس لأن قبيلته “بني ياس” ذات أصول يمنية، بل لأنه ليس مغرضاً وليس مستفيداً من الانفصال، وإنما هو في قائمة المتضررين من أية عملية انفصالية، فدولته تكاد تجسد آخر التراث الوحدوي، وهي تقوم على الوحدة وتندثر متى نما التيارالانفصالي ووجد الانفصاليون من يمدهم بالمال والذخيرة والدعم السياسي.
اليوم اليمن، وغداً يتوجه الانفصاليون ليخرّبوا تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة.
وحده الشيخ زايد، ولأنه فوق الشبهات ولا يريد من اليمن أرضاً ولا نفطاً ولا نفوذاً، يقدر أن يلعب دوراً قد يكون حاسماً في لجم الحرب وإعادة اليمنيين إلى طاولة الحوار لإنقاذ اليمن… ولا إنقاذ لها إلا بتجديد الوحدة. على أسس صلبة ومتينة وراسخة كتلك التي أمكن بها تجديد السد في مأرب ليعود “وادي أذنه” أرض الجنتين.
فالشيخ زايد يعرف اليمنيين، شمالاً وجنوباً، قبائل ومذاهب، ويعرف “لسانهم”، ثم أنه أقل رجل يتحسس منه السعوديون وسائر الخليجيين. كما أنه لا يستفز “الدول” لاسيما منها تلك التي تملك أن تقرر مصائر الشعوب المستضعفة.
أما على المستوى العربي فلا ينعقد الإجماع على رجل إلا على “زايد” وحده، لأنه لا يشكل خطراً على أحد. ولا يطمع في خير أحد، ولا يضمر الشر لأحد.
إنها أزمة خطيرة جداً ولذلك فهي تحتاج رجلاً بسيطاً جداً وبريئاً جداً.
وها هي صنعاء تتوجه إلى زايد وحده من دون سائر الملوك والسلاطين والرؤساء العرب.
وبالتأكيد فلن يرفض المعتصمون الآن في المكلا بحضرموت مبادرة إنقاذ يتصدى لإنجازها زايد بن سلطان آلنهيان، خصوصاً وأنهم بحاجة إلى من ينقذهم من غلطهم وسوء تقديرهم ومراهناتهم الحمقاء.
فهل يبادر “زايد” فيوفر على العرب المزيد من الهوان والضياع والتردي ويحفظ لهم البقية الباقية من الأمل في منع الكارثة القومية الشاملة والتي تصل حدود الاندثار؟!
ألا تكفي النار الإسرايلية فنندفع بأقدامنا إلى جحيم تدمير الذات؟!

Exit mobile version