طلال سلمان

على الطريق يوم أحد لبناني في منتصف شباط

اليوم أحد، والشمس نيسانية الدفء رغم إننا في منتصف شباط “اللباط”، والبحر مرج أزرق ييهادة موجه رائقاً رقيقاً نحو الشط فيغني حبه للأرض بالهمس، باللمس، بالآهات.. ولا صدى لأصوات انفجار الصواريخ وقذائف القتل المتبادل، وكل شيء هادئ، هادئ، على الجبهات جميعاً حتى “لكأنهم” شالوا الظعن شالوا!!
وفي مدينة هدها السبي وأحزان التهشيم وبرد الضياع كبيروت، يغري مثل هذا الجو المفتقد منذ دهور بأن يخرج الإنسان من قوقعته داخل همومه، فمن مكمنه في غرفته، فمن البيت إلى الشارع ليتفرغ على البحر وعلى الناس الخارجين مثله من كهف الخوف، بل ربما فكر بمغامرة تصل به إلى حدود “الدول” الأخرى على امتداد الساحل أو عبر الجبل،
الحمد لله على نعمه، فما تزال الأرض تتابع دورانها حول الشمس فيتوالى الليل والنهار، بل وتتوالى الفصول بانتظام عجيب، وها هي طلائع الربيع تنقر بمناقيد السنونو على لوح ذكرياته عله يستعيد وعيه بالأسماء وعلاقته بالمسميات!!
خي!! ما أبهج اشتعال البساط السندسي بصفرة زهر القندول… وزهر اللوز “المجنون” يرنو بشيء من تعالي الأقدمية إلى الأشجار “العاقلة” كالمشمش والدراقن والكرز وهي تلقح أكمامها، المزمومة بعد، بالشعاع الحاني لتتفتح، بشيء من الخجل، بداية، ثم تعطي خدودها للنسيم كي يوردها فترد له الجميل عطراً ونحلاً يجتني منها الشذى.
اليوم أحد، و”صفاء” الجو يمنحك إجازة من هموم انخفاض الليرة وارتفاع الأسعار والضغط،
فجبهات المخيمات هادئة، وكذا خطوط التماس، والأخوة – الأعداء يرتاحون لبعض الوقت.. والغصة التي لا تستطيع أن تهرب منها أو تنسى ألمها إن جان عبيد ما يزال محتجزاً، في مكان ما من هذه العاصمة التي كانت أميرة للحرف والحرية فجعلوها أميرة للحزن يشتمها الكاوبوي الأميركي ويطالب بالحجر على سكانها، ويبعث بأساطيله ويعطل مطارها لإكمال طوق الحصار من حولهاز
فجأة وبلا مقدمات، تساقط زهر اللوز مضرجاً بدماء أحلام السذج الذين توهموا إن “المسلحين” يمكن أن يتركوهم ينعمون بيوم إجازة، ولو أمضوه في الفراغ وتأمل دخان اللفافات والأفكار المحترقة.
داخت إبرة المذياع وهي تسعى لاهثة لالتقاط “الفلاشات” الجهنمية الوقع، وداخت العيون معها، ثم داخت الرؤوس وهي تحول أخبار الاشتباكات إلى خريطة ميدانية وتعكف على استكشاف طريق العودة من خلل الرصاص.
فطريقك دائماً بين رصاصتين، بين قذيفتين، بين موعدين مع الموت قد يسعدك حظك بالنجاة إذا هما تصادما قبلك أو بعدك بهنة من ثانية.
وكالعادة، استولد الاشتباك اشتباكات، وتوسعت رقعة المصادفات القاتلة، ثم غطى التهاب “الجبهات التقليدية” ذلك الحيز الضيق الباقي للتنفس.
واحتل الموت المدينة، شرقاً وغرباً، والمعابر، واقتحم البيوت جميعاً، واجتاح البحر مطارداً آخر سنونو كانت تمرق مذعورة بين قذائف الحلفاء!
.. وعدنا نعيش على السمع،
نسمع صدى الانفجارات “فنطمئن” إن ضحاياها غيرنا،
ونسمع الإذاعات “فنطمئن” إن منطقة الاشتباكات تبعد عن بيتنا بأكثر من مدى الرصاص،
ونسمع تصريحات القادة والزعماء “فنطمئن” إلى أنهم بألف خير، خصوصاً وغن صورهم تجيئنا مساء فتشاركنا جلساتنا العائلية الحميمة… أليسوا من أهل البيت، بل أفلسنا نحو الضيوف وهم رب المنزل؟!
ونسمع أخبار البلاد البعيدة “فنطمئن” إن حالتنا كصيغتنا فريدة!
والحمد لله الذي اختار لنا أن نكون من “خير أمة أخرجت للناس”.
اليوم أحد، مطرز تاريخه فوق لوح الصدر بالرصاص، أما الذاكرة فقد ضاقت بازدحام “الأيام الحلوة” التي اصطنعتها لنا قياداتنا الملهمة بكفاحها وعرقها والدموع والدماء.
وتاريخنا مرشح لأن يكون، في المدى المنظور، حاصل جمع هذه “الأيام الحلوة” التي باتت تعرف إما بأسماء قياداتنا الفذة الصريحة، وإما بأسماء مناطق هيمنتهم وكراسي دولهم، وكلكم يعرف الأسماء فلا داعي للإحراج.
ما يمكن ملاحظته فقط على هامش هذه الخواطر “الربيعية” هو انعدام العمل السياسي، ناهيك بالصراع السياسي المألوف والمعروف في مشارق الأرض ومغاربها. بالكاد ثمة “علاقات أمنية” بين القوى المقتتلة حتى آخر مواطن فوق هذه “الساحة” التي تختزل العالم وتختزن شبكات مخابراته جميعاً، وأدوات القتل والتدمير والتخريب التقليدية والحديثة، بما في ذلك آخر صيحة في دنيا مبتكرات التنصت والتجسس والتخابر والاغتيال بلا ألم!!
العلاقة بين التنظيم، أي تنظيم، والجماهير “علاقة أمنية”: هي تخافه قطعاً وهو يخافها لعظيم مآثره وإنجازاته من أجل غدها الأفضل.
والعلاقة بين هذا التنظيم وذاك علاقة أمنية، ويتعاظم عنصر الأمن فيها كلما ترسخ التحالف.. فهم كل من التنظيمين أن يكتشف مناطق نفوذ التنظيم الآخر، مكاتبه فيها ، كادراته، مخازن ذخيرته، ذبذبات موجات الاتصال، الشيفرة المستخدمة، أجهزته الأمنية، واساساً: نقاط الضعف ووجوه الخلل و”المفاصل الاستراتيجية” لحركته التكتيكية حتى يضربها مع الطلقة الأولى!
والعلاقة بين التنظيمات المتحالفة وبين “أصدقائها” الآخرين علاقة أمنية، يكاد ينعدم فيها أثر السياسة، أي الأساس الضروري للتحالف كما للصداقة وحتى للعداوة.
وحتى العلاقة بين التنظيمات والدول الشقيقة والحليفة والصديقة علاقة أمنية بالدرجة الأولى،
وكذلك العلاقة بين التنظيمات المتخاصمة إلى حد تبادل القصف العبثي اليومي، الذي يجعل الناس العدو المشترك لمدافعها جميعاً.
لا برنامج، لا مشروع، لا راية، لا أهداف واضحة ومحددة. لا حركة جدل من حول طبيعة المرحلة واستهدافات النضال فيها.
حليف الحليف يمكن أن يكون في الوقت ذاته حليف عدو الحليف،
وعدو الحليف يمكن أن يصير، وبلا مقدمات، صديقاً عزيزاً لحليف العدو،
مختلفون على كل شيء؟!
أبداً، إنك إذا ما دققت تجدهم، في الأعالي، متفقين تماماً.
قبل كل اشتباك يتلاقون فيبتسمون لعدسات المصورين (وسخرية من قراء الصور والآخذين بها كمعبر جدي عن العلاقات)،
.. وبعد كل اشتباك يتلاقون فيأكلون هنيئاً ويشربون مريئاً وتتعالى قهقهاتهم أقوى من قذائف مدافعهم الجبارة!
أين القضية؟! أين البلد؟! أين الناس؟!
أين الناس.. ذلك هو السؤال!
والام يستمر غياب الناس بالخوف أو بالعجز أو بالقهر أو بهذا كله؟!
ماذا ننتظر؟!
لا حل سيطلع من البحر فالأسطول السادس يلغي الحلول ولا يصنعها، بل ولا يسمع لها بالاقتراب،
والجو لطيران العدو الإسرائيلي، المعزز الآن بالطيران الحربي الأميركي،
.. وعلى الأرض السلام، كما عشناه أمس الأحد، منتصف شباط من العام الثالث عشر للحرب الدائمة..
أما رئيس الجمهورية فمشغول بعد، يتابع جولته المظفرة لإنقاذ البلاد واقتصادها والتبرعات تنهال عليه كما المطر.
اليوم أحد، والمدينة الممزق صدرها بالرصاص يعقوبية الحزن،
لكن بسمة يتيمة شقت ليل الحزن وأضاءت بقعة صغيرة في السرداب الذي نختنق فيه حين طغى على صوق القذائف والرصاص نبأ “الإفراج” عن جان عبيد.
لقد نجا “المواطن الأخير” إذن،
وما يزال ممكناً أن نعمل جميعاً لاستيلاد شمس جديدة تفرد شعرها خيمة دفء على الناس فينتعشون ويعودون إلى وعيهم ليمارسوا وجودهم وإرادتهم في صنع حياة تليق بهم،
فجان عبيد كان رمزاً للناس هؤلاء، المختطفين المحتجزين داخل بيوتهم وهمومهم وخوفهم من القيمين على الشارع وعلى أمورهم.
ولقد ثبت إن “الناس” هم الأقوى،
وعلى هذه “الصخرة” يمكن أن يبنى مشروع الحل الوطني العتيد والسلام المرتجى الذي يطلبه كل الناس ويعملون له ويمنحونه من دمائهم مقومات الحياة.

Exit mobile version