طلال سلمان

على الطريق ياسر عرفات والمحاسبة المتأخرة!

ليست فلسطين هذه التي يعلن ياسر عرفات أنه ذاهب إليها تحت لافتة “غزة وأريحا أولاً”، لسبب لا يعرفه إلا الله والراسخون في العلم،
لكنه قد يكون الوقت الأنسب لمحاسبة ياسر عرفات.
الموضوع، مرة أخرى، هو حصر الأضرار وتحديد الخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلسطين، القضية والأرض والشعب، أما المؤسسات فلم يبق منها ياسر عرفات شيئاً لكي يحاول أحد إنقاذه.
والذين سمحوا لياسر عرفات أن يختزل بشخصه فلسطين على امتداد ربع قرن أو يزيد لن يستطيعوا اليوم، وببساطة، أن يلغوه لكي ييستعيدوا ما سمحوا له أو ربما مكنوه من إلغائه.
لقد اختزل ياسر عرفات بشخصه، في البداية، حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، بتساهل مكشوف من قيادة هذه الحركة التي كانت تضم من هو أكثر كفاءة من “أبي عمار”،
ثم اختزل بفتح بداية، ثم بشخصه منظمة التحرير الفلسطينية التي استولى عليها بما يشبه الانقلاب العسكري قبل ربع قرن من اليوم،
وما كان بإمكان ياسر عرفات أن يتم ذلك الانقلاب وأن ينجح فيه لولا أن المنظمات الفلسطينية القائلة بالكفاح المسلح قد تواطأت معه على “القيادة المدنية” للحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة بالسياسيين المحترفين من أمثال المغفور له أحمد الشقيري.
هل يمكن اليوم إصلاح خطأ استراتيجي وقع قبل خمس وعشرين سنة، وضمن ظروف سياسية محددة، في فلسطين كما في الوطن العربي وفي العالم، وبعد كل تلك الانتكاسات والتحولات التي غيرت شكل العالم وقوانين التوازن بين القوى فيه وشطبت معادلات أساسية وغيبت دولاً وقوى عربية أساسية كمصر والعراق؟!
وهل يستطيع رجل، كائنة ما كانت قدراته الشخصية، أن يحل محل قضية، وأن يعوض الناس مقدساتهم وقيمهم وسنوات نضالهم الطويل، إضافة إلى أحلامهم المسفوحة كدماء الشهداء فوق الأرض المطهرة بالتضحيات الغوالي؟!
الوقت متأخر جداً… وإذا كانت هزيمة 1967 تؤتي بعض أكلها الآن ، فإن المقدمات كانت تومئ إلى النتائج و”تبشر” بها، لكن الكثرة لم تكن تريد أن ترى وأن تفهم وأن تتعلم وأن تتحسب للمستقبل.
فما جاء كثمرة للهزيمة لن يلد غير المزيد من الهزائم،
وإذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية ثمرة لانتصارات ناقصة فإن قيادة ياسر عرفات لا يمكن أن تنتسب إلا إلى الهزيمة الكاملة في 5 حزيران 1967.
اليوم يمكن أن نعيد القراءة وأن نفهم الكثير مما استغلق علينا فهمه تحت ضغط الهزيمة التي ذهبت بعقولنا بقدر ما سحقت تمنياتنا وأحلامنا القومية السنية.
اليوم يمكننا أن نقرر بهدوء أن الردة الانفصالية – الكيانية – القطرية قد ولدت من رحم الهزيمة القومية في صباح ذلك الاثنين الأغبر من حزيران سنة 1967.
لياسر عرفات ستة تواقيع مختلفة،
هذا ما يستذكره كل من كان قريباً أو على صلة “بالأخ القائد العام للثورة الفلسطينية” طوال سنوات “حكمه” في بيروت، وهي الفترة التي حاول أن يزكي بها نفسه ويثبت من خلالها جدرانه بأن يتولى المسؤولية المباشرة عن قطاع غزة (وقد أضاف إليه مؤخراً أريحا لأسباب لم يفهمها حتى اللحظة إلا الإسرائيلي)؟!َ
بين تلك التواقيع ما هو بالحبر الأحمر، وبينها بالأخضر،
بينها ما هو بالنقط، وبينها ما تغيب النقط عنه،
بينها ما تحت كلمة أو أكثر من النص فيه خط أو خطوط،
ولكل إشارة أو “كود” معنى أو دلالة لا يفك طلاسمها إلا ذلك المعتمد والموثوق من “أبي عمار” شخصياً،
وياسر عرفات كان يسجل لقاءاته ومحادثاته مع الرؤساء وكبار المسؤولين في مختلف الدول العربية على أربع مفكرات أو خمس: واحدة لقيادة فتح، وثانية للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي كانت تتشكل من ائتلاف بين منظمات الكفاح المسلح تحتفظ منه فتح بالأكثرية، وبحق النقض وبالقدرة على اتخاذ القرار حتى لو اعترض “الحلفاء” أو “الشركاء” مجتمعين، ومفكرة ثالثة للقيادة المشتركة (الفلسطينية – اللبنانية)، ورابعة للحلقة الضيقة جداً من المؤتمنين في قلب قيادة فتح أو “مجلس البطاركة”، والبعض كان يسميه “الخلية الأولى” أو “الدهاقنة” أو “العرابين” أو “الغيلان” أو “المحفل الأعظم” الخ…
أما المحضر الكامل (والحقيقي) لتلك المحادثات ففي رأس عرفات ليس إلا،
ولقد كانت هذه الواقعة موضع تندر وتفكهة في بيروت، بين الفلسطينيين كما بين اللبنانيين على حد سواء، لاسيما وإن الجميع كانوا يسلمون بها كما يسلمون بتصرفات “الختيار” كما يسلمون بتصرفات غيره من “القادة” وسواء أكانوا ملوكاً أو رؤساء بمواصفات ملكية.
وكل الذين يعترضون اليوم على ياسر عرفات يعرفون هذا كله وأكثر منه فيه: فهو المناور إلى حد العبث كنتيجة للاحتراف، وهو الشاطر بل المتشاطر إلى حد اللعب بنار الفتنة وتشطير القوى الحليفة حتى لا تقوى مجتمعة على الاعتراض خشية الاحتراق بنار الفتنة، وهو المزايد إلى حد التفريط، المناقص إلى حد التعجيز، والمحتفظ دائماً بمخارج للنجاة لا يستطيع أن يتسلل منها من هو “أسمن” منه أو حتى من هو “أنحف” منه، لأنها مفصلة على مقاسه شخصياً.
وليس أسهل الآن من رمي ياسر عرفات بكل أثقال المسؤولية عن الانحراف والتفلاريط وسفح دماء القضية،
لكن إدانة منهج ياسر عرفات لا تكفي لأن تكون وثيقة براءة لكل أولئك الذين ربأوا فسكتوا، أو اعترضوا ثم لما يئسوا من إمكان التغيير بالاعتراض عادوا فالتجأوا إلى نظرية التغيير من الداخل ومن خلال القرن الشديد بدلاً من الاستنكاف أو المطالبة اليائسة عن بعد سحيق.
المفجع أن ياسرعرفات يتقدم الآن إلى المعركة الفاصلة، وهذه المرة مع العدو الإسرائيلي شخصياً، بالأساليب نفسها التي طالما اعتمدها مع “الحلفاء” أو “الأصدقاء” أو “الشركاء” من فلسطينيين وعرب آخرين أو من قوى عالمية كانت تناصر قضيته الحق،
لقد ضاق هامش المناورة حتى ليكاد يضمحل تماماً،
وبات على ياسر عرفات أن يتنازل عن لحمه الحي، وليس فقط عن الزوائد أو الحواشي التي كان يدخرها للتضحية بها في اللحظات العصيبة،
وهذا فهو يتناول الآن عن الأساسيات وليس عن التفاصيل،
لقد اختصر، ذات يوم، الحركة الوطنية الفلسطينية في فتح تاركاً بعض الهامش لمنظمات أخرى كانت تجسد حقباً من النضال القومي العربي من أجل فلسطين أو أطواراً من النضال الوطني الفلسطيني،
ثم اختصر منظمة التحرير الفلسطينية في قيادة فتح، وقيادة فتح في شخصه،
وها هو الآن يضحي بالخارج من أجل الداخل، وبقيادة الثورة من أجل “رئاسة بلدية غزة – رفح”، وبمنظمة التحرير الفلسطينية من أجل فتح، وبفتح من أجل شخصه،
وها هو يخوض مجموعة من الحروب الجديدة مع أهل الداخل كما مع قيادات الخارج، مع الأنظمة العربية المواجهة كما مع الأنظمة المساندة،
لكن لكل شيء نهاية،
وها قد اقترب زمن النهايات،
وها ياسر عرفات يصل إلى مواجهة إسحق رابين وليس معه إلا تراث صراعاته من أجل أن يبقى وحيداً فوق القمة،
والمأساة أن رابين يواجهه ومعه أكثر من ثمانين في المئة من “مجتمعه”، في حين أنه يصل وضده أكثر من تسعين في المئة من أهله في الداخل والخارج، فلسطينيين وعرباً آخرين،
فكيف يمكن أن تستوي المعادلة، وأنى للصراع أن ينتهي بنتيجة يمكن أن تعادل حجم الدم المراق من أجل الوصول إلى التحرير بالتفاوض كنتيجة للقتال من أجل التحرير، وليس للحكم على حساب التحرير والمنظمة وفلسطين ذاتها؟!
إن الفلسطينيين في مأزق يجسد الهزيمة القومية الشاملة.
والكلمة باقية للفلسطينيين،
فهل تراهم مؤهلين وقادرين على انبعاث مؤسساتهم وإحياء الضوابط ولو على حساب القيادة والقائد – الرئيس، أم أنهم سيكتفون – كالعادة – بالاعتراض لتبرئة الذات ثم يلتحقون بعد ذلك مفترضين أن المحاسبة ستكون لعرفات بينما يتنغمون هم بالمناصب كجوائز ترضية على إعلان الاعتراض دون الوصول به إلى خلع القيادة، فيربحون بذلك الدنيا والآخرة؟!
الجواب عند الفلسطينيين، كل الفلسطينيين في الداخل والخارج، في فتح وفي المنظمات الأخرى، قبل أن تكون لدى سائر العرب،
… وإلا كانت الكلمة، هنا أيضاً، للعدو الإسرائيلي،
وبعدها يصعب الاعتراض، هذا إذا لم يصبح مسىتحيلاً، وإن نفع لبكائيات الذكريات.
والكل في انتظار الكلمة الفلسطينية.

Exit mobile version