طلال سلمان

على الطريق وردة حمراء في غرة سنة كالحة!

كجسد الحبيبة صار الجنوب: اقتحمنا بأسماء قراه الصعبة على النطق حتى امتلأنا به وبتنا نعرفه بالموقع وبالشبر وبالحدود الوهمية التي ركزها الاحتلال ليفرض علينا أن نتعاطى معه فرادى، كل جهة على حدة، كل دسكرة وكل مزرعة لوحدها، ثم كل “قطاع” بمعزل عن الآخر… فلكل معركته، وللعدو فيها اسم مختلف، فهو ليس دائماً وبالضرورة “جيش الدفاع الإسرائيلي”، إنه حيناً “الحرس الوطني”، وأحياناً جيش الصنيعة أنطوان لحد الذي تكنى زوراً باسم الجنوب، وإن كان هذا لا يخفي “إسرائيلية” الأدوات جميعاً ما جاء منها براً وما عبر البحر من لارنكا إلى جونيه فالجنوب، أو ما جاء مباشرة وبالجو من الأرض المحتلة ليحرق شعبنا وأرضنا بنار الحقد والكراهية المعتقة.
كجسد الحبيبة صار الجنوب، واسمه الأصلي والأصيل جبل عامل: نعرفه، نعرف تقريباً كل من فيه وكل ما فيه، كما تعرف موقع الشامة الساحرة على صفحة الخد الأسيل، وكما تدرك بالحس رفة الهدف فتعرف أنها راضية أو مغضبة، وكما تستشعر من فوح العطر اقترابها منك وحتى من قبل أن يختلط إيقاع الخطو الهامس بإيقاع النبض المدوي في الوادي الذي بين الرئتين!
… ولقد رشق أبناء جبل عامل، أمس، وردة في غرة هذه السنة الكالحة، حين اقتحم فتية منهم آمنوا بربهم وبأرضهم فزادهم هدى واحداً من المواقع الإسرائيلية المموهة باسم جيش لحد، وهكذا تسنى لبرعشيت أن تدخل التاريخ من بابه الواسع ملتحقة بأخواتها التي نقشت أسماءها على ألواح صدورنا بالدم القاني.
وكانت عملية برعشيت الشجاعة كافية لكي يسقط البرقع والتمويه، ويأتي العدو بطائراته وبجنوده وقنابله فينسف ويقتل ويدمر ويحرق الزرع والضرع ثم يصدر البيانات متباهياً بأنه – هو أيضاً – قد دشن السنة الجديدة بعمل عظيم!
وقبريخا ترخي الآن شعرها الطويل، ومثلها خربة سلم، وصفد البطيخ، والجميجمة وشقرا، والدروب الترابية، والقادوميات التي تربط بينها.
لقد تم “تمشيطها” بطائرات الهليكوبتر.
وشعر قبريخا أرجوحة تختال بين الشهادة والنصر.
أما خربة سلم فلم تكن في حياته “عامرة” وحاضرة كما هي الآن، وبعدما أدركت – بالملموس – إن سلامها لا يكون إلا بزوال السبب في الخراب والتخريب. وهو الاحتلال وأدوات الاحتلال وصنائعه.
أما ميدون التي سبقت إلى المواجهة فقد انتشر أريجها على مدى جبل عامل والبقاع الغربي، يحمل إلى اليائسين والقانطين نشوة الإحساس بالقدرة على الفعل، وثبات الأرض بقوة الحب ووثوق الارتباط وإرادة الصمود.
لقد استشهدت منازلها، واحداً واحداً، واستشهد بعض أهلها واستحالت الحياة فيها على الآخرين، لكن ميدون اليوم أعظم مما كانت في أي يوم وستكون غداً منارة وعلامة مميزة في تاريخ هذه المنطقة وتاريخ إنسانها الذي يرفض الهزيمة والاستسلام، ويكبر على الفتنة والتعصب، ويستمر يفاخر بانتمائه إلى أمته العربية المجيدة حتى لو أنكره حكامها الذين “يكافحون” لكي تصغر الأمة – أو أقطارها – فتغدو بحجم قبضاتهم الحديدة، ويزعجهم أكثر ما يزعجهم أن يفرد مواطنها طوله – وقدراته – فيكشف كم هم أقزام وتوافه، وكم هم أصغر من أن يطاولوا مجد التحرير أو شرف الصمود والتصدي ناهيك بإرادة النصر على العدو القوي!
إنها الحرب، أو الحروب الأهلية، بكل البشاعات التي تتجاوز الخيال.
لكن ثمة جانباً آخر للصورة، أو للقمر، يطل منها الوجه المضيء عبر جسد الحبيبة التي اسمها جبل عامل، والذي لم يبق فيه موضع لسيف أو لجرح.
ومن الظلم لأبناء جبل عامل، أرومة العروبة في لبنان، أن يطمس هذا الوجه، وأن تزور جراحه وتنكر تضحياته، وأن يشوه تاريخه الذي يكتب الآن بنجيع الشهداء وبدموع الثكالى واليتامى والأيامى، فقط لتبرير انحرافات المنحرفين وتخلي الحكام عن القضايا المقدسة والأرض المقدسة والحقوق المقدسةز
ولو كانت القمة المزمع عقدها في الكويت “إسلامية” حقاً لوجب أن يكون “التحرير” البند الأول على جدول أعمالها. ولكن جبل عامل الحاضر الأكبر فيها.
لكنها قمة مموهة الهوية، لغتها الإنكليزية، وضيوفها “الكبار” يجيئونها متعجلين لأن دفتر مواعيدهم مزدحم بجدول اللقاءات مع شامير أو بيريز أو مع من ينوب عنهما.
والقمة في الشهادة وليس في أي موقع آخر.
وصناع التاريخ هم الذين يحفظون للسادة الملوك والرؤساء والسلاطين عروبة الأرض واللسان والدين، وليسوا أولئك الذين ضيعوا هذه المقدسات جميعاً.
وشتان بين جبل عامل صانع التاريخ المضيء في هذه الحقبة المظلمة، وبين المستسلمين والمفرطين والمنحرفين الذين يحاولون تغطية تخاذلهم بالتضامن الإسلامي، والإسلام منهم براء.
ولعل المسؤولين في الكويت، وهم المشهود لهم بطول الباع وحسن الدربة وغنى التجربة، ينجحون في أن يسمحوا لجبل عامل المجاهد حقاً، المقاتل من أجل التحرير حقاً، في أن يتواجد بصورته الحقيقية في هذا المؤتمر المهدد بالفشل إذا ما تجاهل القضايا الأساسية.
ومن قبل كان جبل عامل الرمح والراية والطريق للآتين من أجل تحرير الأرض المقدسة من ذل الاحتلال وإثم الغاصب الدخيل.
وحتى اليوم فإن جبل عامل يكمل دوره التاريخي منتظراً المجاهدين ونجدة أخوانه المهددين في ديارهم إن لم يجيئوا لمحاصرة العدو ومقاتلته حيث هو استخلاصاً للأرض والحقوق والمقدسات.
وتحية للذين رشقوا هذه الوردة الحمراء في جبين هذه السنة الكالحة.
وتحية للذين سيرشقون بدمائهم وروداً أخرى، حتى يستحيل جسد الحبيبة حديقة من الورد، ينسينا فوح عطرها بعض همومنا الكثيرة ويشق أمامنا الطريق إلى النصر.

Exit mobile version