طلال سلمان

على الطريق وردة… بين معبرين

خارج النص
خلال الأيام القليلة الماضية تيسرت لنا الفرصة لأن نرود فضاء الأرخبيل اللبناني الواسع فنصل من حده أو قطبه الأقصى في الضاحية الجنوبية إلى حده أو قطبه الأقصى الآخر في زغرتا الشمالية!!
عبرنا حدوداً وسدوداً ونقاط تفتيش برية وبرية وجوية (حتى لا ننسى حتمية حالات)، وتقافزنا بين جزر ضائعة، في المحيطات، مثل سن الفيل وبلونة والمكلس، واقتحمنا المجهول في مناطق نفوذ القوى المتعددة الأسماء، وصولاً إلى طرابلس التي كدنا ننساها وننسى أهلها الذين لم ينسونا ولم ينسوا – مثل معظمنا – لغتهم وصلة الرحم “معنا” في الداخل و”معنا” خارج الحدود كما خلف خطوط التماس،
ولقد هاجت أشجان واستفاقت ذكريات وعادت إلى الوجدان صور غائمة لوجوه حبيبة، خصوصاً وإن رفيق السفر كان بعض أجمل ما تلخصه السنوات الحلوة من عمر الشقاء الباقي،
ثم إن الربيع كان أقوى بشمسه الناعسة وأرضه الريانة وزهره الفواح ومروج الخير الخضراء، من كل الوقائع المريرة التي عشناها وما نزال نعيشها في مختلف أنحاء هذا الأرخبيل الذي كان الجمال كله حين كان صغيراً فصار البشاعة والقتل والخوف والجوع والضياع حين أجبرته الحراب على أن يتعدد بحيث انتفى كوطن، كإنسان، أو يكاد.
ولأن اليوم يوم عيد “السفير” فقد سمحنا لأنفسنا أن نخرج على “النص السياسي” ونحن نستذكر مع العيد سائر جماليات الماضي وأشيائه الحميمة لعل الذكرى تنفع المؤمنين فيجيء مستقبلهم غير حاضرهم المحزن والحزين.
المطار
مع الليل قصدنا منزل العلامة السيد محمد حسين فضل الله في الضاحية.
كان علينا أن نستخدم بعض طريق المطار، ومستديرة المطار والجسر الذي أنشئ على عجل لتسهيل أمر الوصول إلى المطار وكان يعطله ازدحام التداخل بين المدينة – الأميرة وضاحيتها النوارة.
كان الليل ثقيلاً بعتمته، لكن صمت المطار كان أثقل، وكانت الطريق خالية تقريباً إلا من الخوف والتربص وإلا من أشباح سرعان ما تمحي في بطن العتمة، لكن دوي الفراغ في المطار كان مخيفاً أكثر،
إن علة ما تعطل دورة الحياة، هل من قسوة تفوق تعطيل دورة الحياة وإجبار الناس على أن يئدوا أحلامهم، طموحاتهم، أشواقهم، مصالحهم، أعمالهم ومصدر رزقهم، وأن يتصاغروا حتى لا يضايقهم القميص الحديدي للحصار المفروض؟!
هكذا الأمر: تصير قزماً أصغر من الميليشياوي فتعيش كفأر مذعور أو تهرب لتصير نكرة في أصقاع الدنيا الواسعة أو … ليرحمنا الله!
هل يعقل أن تمكن جهة ما، خارجة على كل شرع وشرعية، من تعطيل مرفق عام وأوحد كالمطار، فتحرم الناس أبسط حقوقهم الطبيعية، ثم لا يكون من حق أحد أو بمقدور أحد محاسبتها أو مراجعتها أو استئناف الحكم الظالم؟!
محكوم عليه بالموت البطيء في إسار العزلة، مدموغاُ بطاعون شولتس وتهمة الارهاب، وأنت ضحية شولتس وطاعونه والإرهابيين الذين لا تفرق بينهم – للمناسبة – خطوط تماس أو نقاط تفتيش، بل لعلهم شركاء يتبادلون المنافع والخدمات في الأرض كما في السماء الواسعة!
محكوم عليك بعدم التواصل أو الاتصال بالدنيا، خارج تخوم الكانتونات، ولو عبر صحيفة أو مجلة أو كتاب… فالقراءة معصية او زندقة أو إنها تحد لأمية المسلح ولصورة المستقبل اللبناني الرغيد الذي يريده لك الحكماء.
وقديماً، وأنت صغير، كنت تستعين بطائرة الورق لتدفع ذهنك وبصرك إلى فوق، لتحلم، لتخترق الحجب، لتؤكد قدرتك كإنسان على إسقاط المستحيل.
أما اليوم وأنت كبير فممنوع من الحلم، ممنوع من أن ترفع رأسك إلى فوق ومعه ذهنك ومخيلتك وبصرك، معطل القدرة بينما الأرض مفتوحة أمام المستحيلات تنهش لحمك وأفكارك وأحلام غدك.
ولا سبيل للعودة صغيراً، ولا مجال لأن تكون كبيراً، فكيف تمسك بالشبح وكله ذيل لوهم بعيد؟!
… والمطار الآخر!
نهاراً كنا على طريق بيروت – طرابلس الساحلية، والشمس وردة صفراء تلهب عطر الأرض المنداة بمطر الأمس فينتشر شذاه ناعماً كخدر النعاس بعد يوم متعب،
فجأة اختفت الطريق خلف حاجزترابي، وانعطف بنا السائق عبر “تحويرة” جانبية إلى الطريق الضيق العتيق
-هنا المطار، ألم تعرف؟
-أي مطار؟!
استهول السائق جهلي فرد مشفقاً: – مطار حتما… عفواً، مطار حالات!
عجيب!! نعطل مطاراً عالمياً قائماً بحجة أمنية لنجبر الآخرين بقوة الذريعة الطائفية على التسليم بفتح مطار آخر، تنقصه كل شروط المطارات الفنية، ومستحيل عمله في غياب الاستقرار الأمني حتى لو توفرت له المستلزمات الفنية… وهكذا ينتصر طاعون شولتس فنعزل عن العالم تماماً، ونغرق في لجة الجدل حول طائفة المطار المنشود!!
هنا أيضاً ممنوعة طائرات الورق، والأحلام، من التحليق ورفع الرأس… فالميليشيا سقف منخفض لا بد من إسقاطه لكي تتمكن من الوقوف على قدميك ومد بصرك لتخترق حجب الغيب وتمد يدك لتصنع المستحيل.
بين المعبرين
فجأة يكون عليك أن تتجرد من عقلك ومداركك ومنها البصر والسمع والحس لتسلم بأن عاصمتك تنتهي عند ذلك الكشك من الصفيح الصدئ والجندي السيء الهندام.
ويفرض عليك أن تتصرف كمهرب، كمتسلل، كمتآمر، كلص، كمطلوب للعدالة (وأنت طالبها وضحية غيابها): يهتف باسمك عالياً كأنما يعلن نبأ القبض عليك متلبساً وبالجرم المشهود، تسجل مواصفاتك والعلامات الفارقة، يؤخذ رقم سيارتك، تمتد العيون بالشك نحوك تتفحص نواياك، تنكش الأيدي ذاكرتك، فإذا ما تم الاطمئنان إلى أن نقصك هنا لن يزيد من قدرتهم هناك أجيز
لك بأن تخرج من الجنة ولات ساعة مندم!
وفي “المنطقة العازلة” تقتحم وجومك والحزن عشرات الأفكار والأسئلة الممضة:
مدينة مشطورة نصفين هذا يلغي المدينة ومن فيها. يصيرون مجموعات من اللا أحد من لا مكان. يصير كماً من النكرات بلا أسماء وبلا هوية. فإذا اصطنعت الجغرافيا اصطناعاً ألغيت التاريخ الحقيقي والإنسان لاحقيقي. فالشطر ليس نصف مدينة، وليس جزءاً من مدينة. الشطر إعلان عن غياب المدينة، العاصمة، وكيف بتعطيل القلب يستغرب موت الجسد؟
مدينة مشطورة نصفين، هذا يعني إن الحرب وحدها هي الصلة… وإن البلد لا يتوحد إلا بالحرب!
كيف والحبيب في شطر والمحب في الشطر الآخر يكون الحب، وكيف يعيش حباً يمزقه خط التماس حرفين ويغتال النقطة الجامعة للمبنى والمعطية المبنى؟!
كيف والمكتبة في شطر والكتاب في الشطر الآخر تكون القراءة ويكون العلم وتبقى مدارس وجامعات وخريجون يغنون بحماسة وصدق “نحن الشباب لنا الغد”؟!
كيف والمسرح في شطر والممثل في الشطر الآخر تكون المسرحية، وكيف يمكن ابتداع النص… أو إن المدينة مشطورة لأن “النص” لم يكتب بعد؟!
كيف والحديقة في شطر والوردة في الشطر الآخر، كيف لا يضيع العطر بين بحر بلا شواطئ وقفار بلا بشر يعطون للعطر معناه بالنشوة وهمسة “خيي” الحبلى بالتمنيات؟!
إن نصفين لا يصنعان إنساناً، إنهما، بالعكس، إعلان عن زوال إنسان، لا فرق بين أن تكون الوفاة أو يكون الانتحار سبب التشطير!
وكيف تكون القصيدة إذا انقطع اتصال الذاكرة بالعين، وإذا كانت اليد أبعد من أن تطال الريشة، وإذا كانت النار قد اقتحمت غرفة النوم والوسادة الأليفة؟!
كيف يكون الغناء إذا كان الملحن لا يستطيع سماع تنهيدة العاشق الملتاع وإذا كا نالمغني لا يجد في القاعة عينين ترنوان إليه وقد ابتلتا بدموع الوجد وفرحة اللقيا بعد افتراق.
بعد المعبر الثاني تصير شخصاً آخر، وتزدحم وجوه من تلتقيهم بالأسئلة والتساؤلات: لماذا أتيت؟! ماذا وراء المجيء؟ ومن وراء هذا الوراء؟! من ستقابل ولماذا، وهل تعرفه من زمن (لا يهم أن يكون هو عمرك نفسه!!)، ؟! وماذا بعد هذه الخطوة؟! ثم ماذا يعني ذلك كله بلغة السياسة؟!
(بعد العودة سيكون عليك أن تواجه الأسئلة ذاتها معكوسة لكن لهجة المحقق ستظل هي الطاغية في الحالين)
لكأنه عبور بين عالمين
لكن “العالمين” كذبة. فالناس هم الناس، والهم هو الهم، والأرض هي الارض وحتى البحر هو هو بزرقته اللازوردية، راكد الصفحة مع تموجات خفيفة لكأنها طيف ابتسامة ساخرة.
البنادق كثيرة ولا قضية،
والقضية أقوى من البندقية وأبقى.
ولطالما سقطت بنادق لمجرد انتفاء علاقتها بالقضية… أي بالناس.
والبنادق وحدها لا تحول الأكاذيب إلى حقائق، حتى وإن فرضت تحول الأوهام إلى وقائع معاشة،
فالبندقية تجيء بالمدفع، والمدفع يستجلب المدفع الأضخم، لكن الناس يعيشون بالأفكار وبالمصالح لا برائحة البارود ولا بالمتاريس أو دشم الأسمنت المسلح (حتى الاسمنت مسلح!!).
… وبين المعبرين!
البربارة تخم أين منه سور برلين العظيم.
هنا يتجاوز الأمر التفتيش. هنا “الحساب”! لكأنك تخرج من الدنيا إلى الآخرة أو العكس.
“حرس الحدود” بصحة جيدة وهندام جيد، والنظرات مستريبة، متشككة، فالخارج مشبوه سبب الخروج والداخل مشبوه هدف الدخول حتى وهو يؤدي رسم ولوج الجنة!
-لا شيء يهم… إنها نقطة الجمرك فحسب؟! وهم يتقاضون الرسوم تماماً كما الدولة، وبموجب البيانات الرسمية للبضائع!
اللهجة طبيعية، لا استهجان فيها ولا دهشة. لم يعد الاستثنائي قادراً على استثارة الدهشة. لقد نفدت علامات التعجب، ومن الضروري استيلاد بعضها، ولو بحركات الحاجبين، حين يكون الأمر طبيعياً.
بين البربارة والمدفون حاجز للجيش اللبناني.
هنا أيضاً يفرض على الجنود أن يقوموا بدور مناقض لطبيعة دور الجيش.
لو إنهم جيش لكانوا ربطوا بين شطور البلاد ووصلوها، فأين الخطأ إذن في دور المؤسسة أم في بنيتها أم في الأمرين معاً؟
ولكنهم يحرسون حدود التقسيم ويحمون حرس حدود التقسيم، بحجة حماية الحكم، فهل الحكم أهم من النظام المتوأم مع الكيان في هذا البلد الأمين…
… وسؤال ساذج آخر : هل الحاكم، أو حتى الحكم، أهم من الجيش بدوره الوطني المفترض؟!
بعد المدفون تعود الأشياء إلى سيرتها الأولى، فالجيش السوري هو الذي يؤمن الناس والطرقات والنظام.
وفي كل مكان، خلف الحواجز أو التخوم أو قدامها، يتقدم الأمن على السياسة وغالباً ما يلغيها،
وليس إلا بعد حين يستفيق الناس إلى حقيقة بسيطة مؤداها: إن الأمن بلا سياسة لا يكون، وإذا ما كان فلا يدوم، ففي البدء كانت السياسة وفي الختام تكون!
لسوف نرجئ الحديث عن طرابلس وعن زغرتا وعن المساحة بينهما، فهما يستحقان وقفة مطولة تستوحي التجربة الغنية ودلالاتها الكثيرة بتاثيراتها الأكيدة على مسار الأحداث في بيروت، وبين بيروت ودمشق خصوصاً وإن طرابلس (ومعها زغرتا) كانت دائماً تقوم بدور ضابط إيقاع للعلاقة الدائمة بين العاصمتين المحكومتين بالتكامل مهما تكاثرت أسباب التنافر المصطنعة أو المتأتية عن اختلاف المصالح.
سنكتفي بهذا القدر من التداعيات التي استولدها تشطير البلاد وتحويلها إلى أرخبيل يكاد يمتنع علينا، وعلى أخوتنا معنا، الربط بين جزره المتناثرة فوق بحر الرمال المتحركة الأجاج!
سنترك مساحة يتسلل عبرها العيد ليصلنا، متيحاً لـ “السفير” أن تدخل عامها الرابع عشر مع شيء من الاطمئنان إلى أنها ستعيش – مع الناس وبهم – سنوات أخرى.
ولسوف تبقى “السفير” جريدة لبنان الموحد، الأقوى من الحواجز والسدود ومتاريس التقسيم المدر للثروات الطائلة يأخذها أفراد على حساب حاجة الناس إلى الخبز… وأيضاً إلى الكرامة.
والوحدة قائمة، ثابتة كما الجبال التي لم تلتزم بأوامر الحواجز، ودائمة الحيوية والحركة كالبحر الذي لم تردعه الحواجز الثلاثة بين البربارة والمدفون، ساطعة الضياء عظيمة الدفء كالشمس التي تغطي بنورها المعبرين اللذين حولا بيروت – الأميرة إلى شطرين محاصرين بالتعاسة والشقاء وافتقاد الحل.
ولنعمل جميعاً لتستعيد الوردة عطرها، والقصيدة لحنها والأرض وقدرتها على الأخصاب.
ليكن عيدنا يوم تستعيد بيروت وحدتها فنستعيد أميرتنا القائدة الضرورية لمعركة إعادة توحيد لبنان،
وشرط إعادة التوحيد استكمال مهمة التحرير في الجنوب واستعادة فارسنا المفتقد والذي من دونه لا يكون عيد أو فرح: جبل عامل.
وكل عام وأنتم بخير، ولبنان الواحد الموحد، المحرر المتحرر، الديموقراطي والعربي، بألف خير.

Exit mobile version