طلال سلمان

على الطريق وداعاً أيها الجنرال!

سيغيب “الجنرال”، أخيراً، عن مسرح عملياته السياسية والعسكرية “الناجحة” بغير وداع ومودعين يلوحون بالمناديل المبتلة بدموع اللوحة وعرق الاجهاد ينسرب عبر تغضن الجبين بالحسرة والإحساس بمهانة المهزوم.
سيغيب ميشال عون، وسيزداد عدد “الغائبين” الذين تنتظر كل واحد منهم فئة من اللبنانيين، قائداً برتبة العماد – قائد الجيش – رئيس الحكومة – رئيس الدولة – المحرر – المخلص – القديس وبطل الحربين!
ومع خروجه من “مار تقلا”، ضاحية بيروت الغنية، فاصداً باريس، سيعود إلى فرنسا شرفها الذي كان في “الأسر” كل ذلك من غير أن يخسر اللبنانيون شيئاً من شرفهم… فموضوع “العماد” من بدايته وحتى النهاية ظل خارج دائرة الشرف، كما يحدده العرف والسنة والتقليد المتبوع!
فليس لأن أمين الجميل حافظ على شرف القسم، كرئيس للجمهورية مؤتمن على الدستور والدولة بأرضها وشعبها والمؤسسات، صار ميشال عون “رئيساً”، بل العكس هو الصحيح.
وليس لأن ميشال عون حافظ على شرفه العسكري تعذرإجراء انتخابات الرئاسة، وتسليم الأمانة التي اتخذها رهينة، بل العكس هو الصحيح.
وليس من أجل صون شرف البلاد والعباد شن “الجنرال” الحربين الشهيرتين اللتين كلفتا لبنان في سنتين مثل ما كلفته خمس عشرة سنة من الحروب الأخرى المتعددة الشعارات و”الأبطال”، بل العكس هو الصحيح.
إنه يوم رحيل الأوهام، وربما الأحلام كما تحولت لدى جمهور لا يستهان به من هذا الشعب الذي يمارس السياسة على إنها فاصل زجلي بين صفقتين!!
وهو يوم للحزن عند كثير من الناس البسطاء الذين أسقطوا أمنياتهم على ميشال عون مكررين الخطأ نفسه مرتين في جيل واحد، إذ كانوا من قبل قد عاشوا المأساة مع “الحلم – الوهم” الآخر بشير الجميل.
لكن الحقيقة إن ميشال عون الراحل هو غير ميشال عون المتحصن في ملجأ القصر الجمهوري ببعبدا، ومدغدغ عواطف الجمهور الباحث عن بطل، الهائم على وجهه طلباً للدولة، أي دولة، والهارب من الميليشيات إلى أي شكل من أشكال الشرعية،
فلقد فشل ميثشال عون في تجسيد الدولة والشرعية وإن كان نجح في إيصال نفسه – وعبر الفشل إياه – في صورة البطل.
والشرقيون عموماً، والعرب خاصة، يقبلون أكثر من أي شعب في العالم “البطل” في شخص “الضحية” وليس الجلاد، ويقدمون “المهزوم” بقضية على “المنتصر” ولا قضية،
وفي ذاكرة الشرقيين، مسيحيين ومسلمين، تتراكم أسماء الأبطال “المهزومين”، بالمعنى العسكري، في حين تشحب أسماء “المنتصرين” أو تشحب “إنسانيتهم” على الأقل.
ومُكابر من يزعم، اليوم، إن ميشال عون سيأخذ الدولة وشعبها والشرعية وجيشها إلى “منفاه”، حتى لو صدر عن الحكم أو بعضه ما يشي يخوفه من شبح عون، مما استدعى أن يضمن قانون العفو نصوصاً تتناقض مع الدستور كذلك الذي يجيز الإبعاد.
إن الدولة باقية لأهلها، وأهلها يبحثون عمن يساعدهم أو يمكنهم من إعادة بناء ما تهدم ونسيان الماضي حتى لا يضيع عبرأحقاده وآلامه مستقبل أجيالهم الآتية،
والشرعية يحميها رموزها بقدر ما يؤمنون بها ويعملون لتحصينها بالترفع عن الصغائر والمباذل والهنات والهينات إياها،
والجيش بدوره الوطني وليس بانتهازية قائده وبراعته في قنص الفرص والتربع على عرش الفراغ حتى إذا تعذر ذلك ملأ الفراغ بركام المنازل والمستشفيات والجامعات وتوابيت الضحايا من “رعاياه”.
لماذا لم يسقط ميشال عون من الذاكرة؟!
لأن الحكم – بمجموعه – يقدم في كل يوم الدليل تلو الدليل على صحة اتهامات ميشال عون للسياسيين من أهل النظام القديم وأمراء الحرب من بناة النظام الجديد!
إن ميشال عون الذي لم يعرف كيف يسوس الحكم فخلعه، باق لأن “العارفين” الذين جاءوا بعده فعلوا كل ما بوسعهم لتحويله من قائد عسكري فاشل إلى بطل شعبي في مستوى الرمز.
إن خيبة أمل المواطن هي الموضوع. إن الفراغ السياسي هو الموضوع. إن فشل الحكم في تقديم نفسه للناس بصورة تتناسب مع الطموح هي الموضوع.
وميشال عون لم يسقط من الوجدان لأن علة ما منعت الحكم من أن يصل إلى هذا الوجدان فيستوطنه،
وليس لميشال عون جمهور فعلي بين اللبنانيين،
ولكن الجمهور المنفض من حول الحكام الحاليين يطلق زماميره لميشال عون معبيراً عن عدم رضاه عنهم وعن رفضه لما يسمعه عن صفقاتهم وعن صغاراتهم وعن خلافاتهم التافهة وعن تقاعسهم عن تحقيق ما يفترض إنه الأبسط من حقوقه المشروعة.
ليس ميشال عون بطلاً. إنه في منزلة ما بين الحلم والوهم، وبقدر ما يتضح فشل الحكم يتحول إلى أسطورة. إنه يتغذى بفشل الحكم الحالي تماماً كما يسر له فشل الحكم السابق أمر ولادته القيصرية.
لقد تجرأ ميشال عون على كل المقدسات وحقائق الحياة، فقصفها بالمدفعية،
ولا يجابه حكم خائف ميشال عون، أو غيره من أمراء الحرب،
والسؤال: متى يقتل الحكم الخوف من الأشباح؟!
متى يغدو الحكم حقيقة ليسقط الناس أوهامهم ويستأنفوا سيرتهم الأولى مع الحياة؟!
متى ينهي الحكم الحرب الأهلية الجديدة… بين أطرافه وبين شعبه؟!

Exit mobile version