طلال سلمان

على الطريق واشنطن والمسار اللبناني..

طمأننا بعض زوار واشنطن، مؤخراً، على صحة السفير الأميركي (السابق؟) مارك هامبلي، الذي ترك لبنان لإجازة قصيرة مع زوجته، في قبرص، ثم لم يعد، ولم تتكرّم حكومته بتفسير رسمي لسبب “استدعائه” المفاجئ، والقرار بعدم عودته، وبعدم تعيين سفير بديل، وإن تركتنا نفهم – بالتواتر – أن الرجل مريض ومرضه خطير بل خبيث ومعد والعياذ بالله.
وبرغم اجتهادات القائم بالأعمال الجديد للتفسير والتبرير ونفي الدواعي السياسية وكذلك المعاذير الصحية، فإن اللبنانيين، لم يجدوا في هذا التصرف الغريب ما يتناسب مع الكلام الرسمي المكرر عن حرص الولايات المتحدة الأميركية على سيادة لبنان واستقلاله وكرامة شعبه ودعمها لمؤسساته إلخ..
من السذاجة تصديق ما يُقال من أن واشنطن عاقبت سفيرها لأنه بالغ في الحديث عن تمسك بلاده بالقرار 425، فلم يكن مارك هامبلي، على ظرفه، بطلاً وطنياً لبنانياً، ولا خصماً عنيداً لإسرائيل.
لكن من السذاجة أيضاً الافتراض أن واشنطن لا تنام الليل لانشغال بالها بتمرد إسرائيل ورفضها تطبيق ذلك القرار الأميركي المنشأ، والذي وئد حياً ومباشرة بعد صدوره قبل سبعة عشر عاماً إلا قليلاً، فتحوّل جنود قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان (الذين أرسلوا للإشراف على تنفيذها!) إلى مجرد شهود وزير برواتب مجزية.
كيف إذاً، يمكن تحريك “المسار اللبناني” بينما الراعي الأميركي للمفاوضات الثنائية مع إسرائيل يدير ظهره للقرار 425، ويتحدث عن لبنان في دمشق ومعها، ولا يأتي على سيرته في تل أبيب، فإذا ما أشار إليه فعبر المطالبة بتصفية “حزب الله” وسائر أنماط المقاومة باعتبارها “قوى إرهابية” تستهدف “قتل العملية السلمية”!
ليس تحريك المسار رهناً بإرادة الحاكم اللبناني،
ومع ضرورة أن يستمر الحكم في المطالبة وفي استخدام ما يملك من وسائل الضغط، وهي قليلة جداً، للتذكير بواقع الاحتلال الإسرائيلي لبعض أراضيه، فلا بد من التنبه إلى المزالق المهلكة التي قد يقود إليها الإلحاح على “الحركة” بينما الإسرائيلي في وضع مريح يتيح له استثمار عنصر الوقت لصالحه، ويمارس بالتالي سياسة الابتزاز التي طالما اشتهر لها، لإضعاف موقع المفاوض اللبناني (الضعيف أصلاً)، ومحاولة التأثير على الترابط العضوي بين لبنان وسوريا، والترابط الموضوعي بين مساريهما.
إن “العالم” يكافئ قادة إسرائيل ، ويمنحهم جائزة نوبل على نجاحهم في ابتزاز القيادة الفلسطينية وتسخيرها لتصفية قضية شعبها المقدسة،
لا يهتم مطلقاً لما أصاب شعب فلسطين، ولا حتى لما سيصيب تلك القيادة المفرطة التي تترنح الآن فوق فوهة بركان الخيبة والإحباط في غزة، ولن تنفع جائزة نوبل ياسر عرفات كثيراً، لا في دخول التاريخ ولا في تثبيت سلطته المتهالكة ولا في ملء صندوقه الفارغ بالدولارات،
إن هذا “العالم” ينسب أي “نجاح” يتحقق، لعبقريته القيادة الإسرائيلية، أما مسؤولية الفشل أو الجمود في العملية السلمية فهي دائماً على عاتق الطرف العربي.
لكأنما الخيار الوحيد أمام الطرف العربي: التنازل البلا حد، وإلا فتهمة الإرهاب تتربص به عند الباب…
وإذا كا نت سوريا قد تمكنت، بكفاءة قيادتها وبحسن قراءاتها لخريطة التحولات الدولية وتوازنات المصالح وتناقضاتها، أن تشق لنفسها خياراً خاصاً وناجحاً، فإنها بذلك قد وفرت للبنان فرصة ثمينة لتحسين شروطه في العملية السلمية المفروضة على العرب جميعاً.
إن لبنانه القوي، بصموده، عنصر قوة إضافي في الموقف السوري،
وسوريا القوية، بموقفها الصلب والواعي، ضمانة من الدرجة الأولى لحقوق لبنان في أرضه،
والتضامن المطلق بين البلدين التوأمين شرط حياة لكليهما، وليس مجرد تكتيك اضطراري مؤقت.
وإذا كانت واشنطن قد اختارت باب دمشق لمخاطبة بيروت فيمكن للبنان اعتبار اختيارها امتيازاً، في هذه اللحظة، وليس دليلاً على الاستهانة أو الإهمال، وإلا لكانت قد سلمت بالمقولة الإسرائيلية الممجوجة التي يكررها على مسامعنا كبار القادة الإسرائيليين وصغارهم من أنهم لا يطمعون بأي شبر من أرض لبنان أو بأية قطرة من مياهه، ثم يرفضون الاعتراف باحتلالهم الكثير من أرضه!
.. لولا أن “اختطاف” مارك هامبلي من بيروت يضعف مثل هذا الاحتمال، بغض النظر عن النوايا.
وفي السياسة عموماً، ومع الإسرائيليين خاصة، لا مجال للنوايا، لاسيما الحسنة منها،
أما الأميركيون فأكثر براغماتية من أن يحترموا النوايا أو يتعاملوا بها.
وأعظم المهزومين في الانتخابات الأميركية الأخيرة هي “النوايا الطيبة” للرئيس بيل كلينتون!

Exit mobile version