طلال سلمان

على الطريق واشنطن و”الحلف الثلاثي” الجديد: ديمقراطية تعطيل الانتخاب!

إذا صدقنا ما نقرأ وما نسمع من تصريحات وبيانات وأقوال فإن الجميع مع الديمقراطية ومع الحرية ومع الانتقال من عهد الانقلاب الكتائبي إلى العهد الجديد بهدوء وبسلام وعبر عملية انتخاب طبيعية لا يأتيها الباطل ولا من شمالها ولا من يمينها ولا من دبر!
كلهم مع الديمقراطية، مع البرلمان، مع الحرية المطلقة للسادة النواب… إلا السادة النواب!
حتى واشنطن التي صمتت دهراً، نطقت أخيراً، وقبل ساعات فقط من الموعد المحدد لجلسة الانتخاب، فقالت إنها “تريد للبنان رئيس إجماع وإصلاح ووفاق” لكي “تدعمه وتعمل معه” فيتمكن بالتالي من تحقيق المعجزات كمثل “حل الميليشيات وسحب القوات الأجنبية واستعادة الأراضي المحتلة وإعادة توحيد البلاد وإقامة حكومة مركزية قوية” قادرة على تحقيق هذه المنجزات التاريخية!
بل إن واشنطن قالت ما هو أوضح: “إذا لم يتم التوصل إلى مرشح إجماع، فإننا لا نريد الجلسة!!
أي إن واشنطن، زعيمة الديمقراطيات في “العالم الحر” تقول بصريح العبارة إنها ستعطل جلسة اليوم، وستمنع بالتالي انتخاب سليمان فرنجية رئيساً جديداً للجمهورية القديمة، طالما إنه المرشح الجدي الوحيد!
… وهل من دليل أصدق من أن الحرية، كل الحرية، للسادة النواب ومجلسهم باعتباره رمز الديموقراطية وأداة التعبير عنها؟!
في أي حال فإن هذا الكلام الصريح الصادر عن مراجع مسؤولة في الإدارة الأميركية يفرض احتساب واشنطن مع “الحلف الثلاثي” الجديد الذي اقيم على عجل واضطرار لتعطيل جلسة اليوم، وهو حلف يضم الرئيس أمين الجميل و”القوات اللبنانية” وقائد الجيش العماد ميشال عون، بعدما أسقط هذا الأخير طروحاته جميعاً وعاد إلى الانتظام في صف المعطلين لأسباب يبدو إنها تتجاوز كل ما قاله في حليفيه اللدودين الجديدين… وهو قد قال فيهما ما لم يقله مالك في الخمر!
وفي رأي واشنطن إنها تقدم، الآن، عرضاً للتفاهم طال انتظاره في بيروت وربما في دمشق أيضاً التي حاولت تجنب “معركة كسر عظم” في لبنان ففتحت أبوابها للحوار وهدرت الكثير من الوقت الثمين، قبل أن تيأس فتحدد موقفها تاركة للآخرين أن يقرروا ما يشاءون.
وعرض واشنطن محدد تماماً: إنه يطلب من دمشق، ومن اللبنانيين الذين لا يرون راي حكم الانقلاب الكتائبين أن يسلموا بـ “الفيتو” الكتائبي فلا يكون مرشح، وبالتالي لا يكون رئيس إلا من يرتضيه “الحلف الثلاثي” الجديد الذي لا يخفي صلته المباشرة (أو غير المباشرة ) بالعدو الإسرائيلي!
هذا معناه إن واشنطن تحاول أن تستبدل “رئيس إجماع” هو أمين بيار الجميل، برئيس إجماع آخر من اللون نفسه والطبيعة نفسها، وكان القوات الإسرائيلية ما زالت تحاصر بيروت والإرادة الوطنية – العربية.
فـ”رئيس الإجماع” ، في هذه اللحظة، هو بالضبط الرئيس الذي يشكل عهده امتداداً لعهد الانقلاب الكتائبي الذي قام في لبنان، بالاتكاء على الدبابة الإسرائيلية، وبرعاية الموفد الرئاسي الأميركي فيليب حبيب وبرعايته الشخصية في ثكنة الفياضية.
ولقد كان ممكناً ومطلوباً أن يتم التوافق على رئيس تزكية وإجماع، ولكن أطراف “الحلف الثلاثي”، الجديد في بيروت هم الذين جعلوا ذلك متعذراً. وظل موقفهم غير مفهوم حتى جاء كلام واشنطن فأسقط كل التباس أو غموض وكشف الستر عن المخبوء، فإذا الأمر أمر ابتزاز لسوريا، كما للأكثرية الساحقة من اللبنانيين الذين لا يرون ما يراه أطراف الحلف الثلاثي الجديد.
فحين “مر” ريتشارد مورفي ببيروت فاستأنس برأي من التفاهم فيها، ثم قصد دمشق لكي ينجز عملية التفاهم معها، ولم يقدم ما يمكن أن يؤدي إلى “رئيس إجماع وإصلاح ووفاق”،
على العكس تماماً، لقد تبنى الموفد الأميركي موقف “الحلف الثلاثي” الجديد، في لبنان، فحاول أن يطرح مرشحي هذا الحلف وحدهم، وكأنهم مرشحو واشنطن، وكان طبيعياً أن ترد دمشق بأن لديها مرشحاً واحداً هو سليمان فرنجية.
وبعد جلسات النقاش المطولة التي عقدها كبار المسؤولين السوريين مع الموفد الأميركي، وتعذر الوصول إلى اتفاق، غادر مورفي ومعه بضعة أسئلة واعداً بأن يرد بأجوبة قاطعة عليها بعد استشارة إدارته في واشنطن… ثم لم يأت من واشنطن إلا التحريض لأطراف “الحلف الثلاثي”، بأن يتضامنوا، أولاً، وبأن يهدئوا روعهم فلا يخافوا لأن إدارة ريغان (ومعها إسرائيل)، لن تترك سوريا تحقق نصراً سياسياً باهراً في لبنان.
لقد فرضت واشنطن معركة التحدي، وحالت بموقفها دون توصل اللبنانيين (ومعهم دمشق، بطبيعة الحال)، إلى رئيس إجماع…
… وها هي الآن تطالب به، وكأنما جاء التعطيل من طرف غيرها.
ومن حق اللبنانيين، الآن، وفي ظل هذه المطالبة الأميركية المتأخرة، أن يستذكروا وقائع عهد “رئيس الإجماع الوطني” الشيخ أمين الجميل، فيخافوا..
فالإجماع على النجل الثاني للشيخ بيار الجميل، تم في ظل رعاية أميركية مطلقة، ولكنه كان يموّه انقساماً فعلياً عميقاً سرعان ما تفجر سلسلة لا تنتهي من الحروب في بيروت والضاحية والجبل، وحتى في قلب الحكم والحكومة،
لقد اصطنع الإجماع اصطناعاً، بل هو فرض فرضاً. ولعب الخوف من المجهول دوراً حاسماً في إجبار النواب، كائنة ما كانت انتماءاتهم، على إعطاء أصواتهم للبطل – البديل للانقلاب الكتائبي، فكانت النتيجة ما رأينا جميعاً خلال السنوات الست العجاف الماضية.
بالأمس كان “الإجماع” شرطاً لإيصال الكتائبي إلى الحكم،
واليوم يبدو وكأن واشنطن تطلب الإجماع لمنع خروج الكتائبي من الحكم،
أو إنها تحاول منع خصوم الانقلاب الكتائبي من الوصول إلى الحكم، ولو عبر القنوات الديمقراطية الشرعية، أي الاقتراع بأصوات النواب إياهم.
وفي الحالين يبدو وكأن “الإجماع” وسيلة لتعطيل الانتخاب، والتعبير عن الواقع السياسي الجديد أكثر منه وسيلة لتحقيق المصالحة الوطنية عبر رئيس الاصلاح والوفاق العتيد.
إن الفيتو الأميركي، ومعه الفيتو الإسرائيلي، واستطراداً فيتو الحلف الثلاثي الجديد، لا يسهل أمر الوصول إلى إجماع، وإن كان بوسعه – ربما – أن يعطل النصاب ويمنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية.
لكأنما لا يعبر “الفيتو” عن قهر للإرادة يمنع الإجماع بالرضا،
ولسوف يفرز اللبنانيون، اليوم، نوابهم بين قائلين بـ “الفيتو” وخاضعين له ومستجيبين لأن يكونوا أدوات ابتزاز، وبين رافضين لـ “الفيتو” لأنه يعطل تطلعاتهم إلى إصلاح ووفاق وإجماع وطني حقيقي.
ومن المفارقات أن يكون سليمان فرنجية، ذاته، مرشح “الحلف الثلاثي” القديم، لأنه الأعرق في مارونيته، والأشد تمسكاً بالديمقراطية (في وجه حكم العسكر الشهابي ومكتبه الثاني الممارس للدكتاتورية آنذاك) هدف رصاص الحلف الثلاثي الجديد وكأنه قد خرج من مارنيته ومن إيمانه بالديمقراطية والعداء للدكتاتورية، كما وصفه أبطال حملة الترويج لانتخابه قبل ثمانية عشر عاماًز
… ومرة أخرى: إن انتخاب سليمان فرنجية يكتسب عبر هذه الحرب التي تشن عليه، من الخارج أساساً، ومن بعض رموز الانقلاب الكتائبي في الداخل، قيمة إضافية لم تكن له قبل إعلان الترشيح.
وشرف سليمان فرنجية، ومن معه، أن يقال إن الولايات المتحدة الأميركية، بكل جبروتها، قد نزلت إلى الميدان برجلها وخيلها لتمنع انتخابه،
لكأنما سليمان الثاني غير سليمان الأول…
على إن مجلس النواب هو مجلس النواب، وله – وحده – الكلمة اليوم، واليوم فقط.

Exit mobile version