طلال سلمان

على الطريق واشنطن في العرين الأول للموارنة: من للاختبار الأكبر؟!

انتعشت “معنويات” اللبنانيين وهم يرون، يوم أمس، ما كان قد سقط عبر “الأحداث” من ذاكرتهم المنهكة مما يعيدهم أو يعيد إلى وعيهم بعض الصور من ماضي العز: رئيس الجمهورية (وكلاهما جديد) يتقبل أوراق اعتماد سفير قديم جاء فلم يجد من يتقدم إليه، فكلمة ترحيب رئاسية يرد عليها السفير بما يناسب المقام، وتبادل للأنخاب وسط جو احتفالي لا تنقصه الطرافة.
برغم الفولكلورية الطاغية، وشيء من الافتعال والتمثل، فقد اعتبرها اللبنانيون “الصورة الرئاسية” الأولى لرينيه أنيس معوض الزغرتاوي، والبعض همس متخابثاً: لقد تسلم الآن درع التثبيت!
عادت واشنطن إلى العرين الأول (والأصلي) للمارونية، بعدما طردها ميشال عون من “المركز” الذي هبطت إليه الطائفة عندما قررت أن تأخذ السلطة، مودعة عهد التنسك والاعتكاف والاعتصام في مثل ذلك “الجبل المنيع”، بعيداً عن السلطة وعن مراكز القرار.
… ولقد جالت واشنطن ، خلال اليومين الماضيين، في وادي قنوبين وجواره: من إهدن إلى زغرتا فإلى الديمان رجوعاً إلى إهدن،
وكانت واشنطن، عبر السفير “الفوتوجينيك” جون مكارثي، غاية في الدماثة والرقة والطيبة، فشملت بعطفها بعض ضحايا الصدام مع سياستها كالرئيس سليمان فرنجية، إضافة إلى ضحايا التوافق مع سياستها مثل البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير، وثمرة هذا التوافق الرئيس رينيه معوض.
وسمعنا، عبر عظة البطريرك، المارونية تخطب بالإنكليزية، وإن خانتها اللكنة الأميركية،
كما سمعنا واشنطن تتحدث إلى الموارنة بفرنسية مترجمة عن إنكليزية “الكاوبوي”،
لكن الجميع كانوا يتحدثون عن “الحل العربي” للمسألة اللبنانية متمثلاً في اتفاق الطائف.
فواشنطن ما وصلت إلى إهدن إلا عبر دمشق، وباسم هذا الاتفاق، وتحت لوائه. ولقد تخابث البعض فقالوا إن نعم الطائفة كثيرة!
على إن واشنطن قد تجنبت، حتى الآن، سلوك الطريق الطبيعي الموصل إلى بيروت “لؤلؤة الشرق ومنارة العروبة” كما وصفها خطاب للرئيس معوض في جماهير المحتفلين برئاسته ممن احتشدوا في إهدن، أمس.
أي إن واشنطن جاءت لتدعم الشرعية الوليدة، تاركة مهمة التصدي لرينيه معوض “رئيس الجمهورية الجديدة – رئيس جمهورية الوفاق الوطني – رئيس جمهورية المؤسسات – رئيس جمهورية اتفاق الطائف”.
ومن دون خبث فقد تساءل الكثيرون: وماذا ينفع الدعم الكلامي، ولو صدر عن أقوى دولة في العالم، طالما إن الرئيس “مهجر” وكذلك البطريرك الماروني؟!
وصحيح إن الشرعية ليست بالمكان، ولكن “الجمهورية الجديدة” ما زالت حتى الساعة مهجرة لا يعرف لها عنوان دائم.
فقصر الرئاسة، دست الحكم، محتل، وإرادة الوفاق الوطني لم تبدأ فعلها بعد، وما زال اتفاق الطائف ينتظر الإذن بدخول الشرقية ومعه جمهورية المؤسسات الموعودة.
وعندما يكون الرئيس مهجراً فإن السفير غير المقيم (بل المهجر هو الآخر) يظل زائراً يقدم أوراقه وتحيات رئيسه ويمشي، في حين تحتاج الجولة إلى ما هو أكثر وأفعل من الأوراق… فكيف إذا كانت أوراق اعتماد قديمة لا يجد الرئيس مكاناً يودعها فيه لأن مقر وزارة الخارجية هو الآخر محتل؟!
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل.
المشكلة مجسمة، مجسدة، تمكن رؤيتها بالعين المجردة عبر خط التماس الذي يستمر إرثاً من الماضي، ولكنه يهدد جدياً المستقبل، بما فيه “حدود” للواقع التقسيمي، أو “للدويلة” التي اغتصبها ميشال عون من بناتها الأولين (وهم في أي حال منهم، وإن كان انتقل من خانة المأمور إلى خانة الأمر الناهي)…
المشكلة هي “التقسيم”،
والحل في الوحدة، وليس إلا فيها، ولكي يكون الحل، وتكون الوحدة، فلا بد من إسقاط التقسيم، كواقع سياسي – عسكري قائم له “جمهوره” وله “موارده المالية” وله دعمه الآتي من وراء البحار كما من بين النهرين.
وما من شك في أن الاعتراف الدولي بالرئيس معوض والشرعية وجمهورية اتفاق الطائف أمر حيوي، لكن الأهم هو سحب الاعتراف الصريح أو الضمني بميشال عون وواقعه التقسيمي المعطل للوحدة، للدولة، للشرعية، لاتفاق الطائف بما هو إطار للتعاقد العربي – الدولي مع اللبنانيين من أجل قيام جمهوريتهم الجديدة.
إن لبنان – الوحدة، لبنان – الشرعية، لبنان – الجمهورية الجديدة محاصر الآن بخطرين داهمين: الأول متحصن في ملجأ القصر الجمهوري ببعبدا حيث يحتجز “الشرقية” رهينة، والثاني متحصن في حضن الاحتلال الإسرائيلي حيث يحتجز الجنوب رهينة أغلى من أن يفرط فيها مفرط.
الجنرال مغتصب الشرعية في بعبدا يوجده مدافعه إلى وحدة الشعب،
والجنرال المستقوي بالاحتلال الإسرائيلي في الجنوب يوجه مدافعه إلى وحدة الأرض،
وكلاهما يعلنها بملء فمه: إنما نقاتل لإسقاط اتفاق الطائف.
… فأين أهل الطائف من هذه التهديدات؟1
أينهم هناك في الطائف ذاتها، في الجزائر والمغرب، وفي سائر العواصم التي شاركت في قمة الدار البيضاء واعتمدت قرارها حول لبنان، ورعته حتى تبناه اللبنانيون وتصرفوا بمقتضاه وهم يحاولون إعادة بناء وحدة بلادهم ومن ثم جمهوريتها بالمؤسسات الشرعية كافة؟!
وأينهم هنا، في لبنان، أولئك الذين عادوا بأكاليل الغار من الطائف، وقدموا أنفسهم للعرب وللعالم (وبطبيعة الحال للبنانيين) وكأنهم أبطال الوفاق الوطني وبناة الجمهورية الجديدة؟!
إنها الحرب، ولكنهم بعد لا يتصرفون بالجدية وبالمسؤولية وبالحزم الضروري لخوض حرب فرضها الجنرال على الجميع، في الداخل والخارج، وسيظل يلوح بسيفه فوق رؤوس الجميع طالما لم يستشعر باقتراب نصل السيف المواجه من عنقه.
إنها الحرب… ولكنهم ما زالوا حتى الساعة يماحكون في مسألة تشكيل الحكومة بعقلية المناور الصغير، أو “الدكنجي”، تارة يحسب الأرباح والخسائر، وتارة يتأخر ليدفع غيره إلى المواجهة مدخراً نفسه إلى موسم جني الثمار،
إنه “الاختبار الأكبر”، كما قال جون مكارثي، فمن له؟!
“وليس بالتحديات تبنى الأوطان”، كما قال البطريرك الماروني، ولكن من يسقط “المتحدي” الذي لا يريد بناء، ولا يريد من الوطن إلا ما تطاله قذائف مدفعيته؟1
و”السفينة الكبيرة قد قاربت الوصول إلى شاطئ الأمان… والعاصفة قد شارفت على النهاية”، كما بشرنا السفير الأميركي الذي يكون “أول سفير يعتمد لدينا”.
ولكن هنا بالضبط تمتحن إرادة الربان وقدراته ومدى تسليم البحارة بحقه في القيادة والأمرة… من أجل سلامة السفينة والجميع.
والكل اليوم أمام “الاختبار الأكبر”، وفي الطليعة منهم أولئك الذين قالوا “نعم” للطائف، وقالوا “نعم” لرينيه معوض، وقالوا “نعم” لجمهوريته الوليدة، وليس من حقهم الآن أن يقولوا “لا” لحكومة الوفاق الوطني وإلا كانوا مغفلين أو متواطئين،
فالحكومة هي عنوان الوفاق الوطني ومضمونه،
ومن دونها تصير الرئاسة تحايلاً طائفياً لاستعادة منصب فخم كان مهدداً بالضياع، وليست خطوة حاسمة على طريق استعادة الجمهورية ذاتها على قاعدة اتفاق الطائف وبضمانة العرب والدول أجمعين.
والجمهورية هي الهدف، وجمهورية اتفاق الطائف تحديداً هي الحل، وما دونها يذهب بنا إلى القبرصة أو إلى التقسيم، مهما تعاظمت أوراق اعتماد السفراء في أدراج وزارة الخارجية المهجرة، مع الرئيس، إلى القصر الحكومي في الصنايع.

Exit mobile version