طلال سلمان

على الطريق هو البشارة!

تمالك نفسك يا رجل! من العيب أن تبكي الآن، فتفسد لحظة الفرح اليتيمة التي شقت عتمة ليل الحزن والهزيمة الطويل!
اهدأ! فليس في الأمر أي خروج على الناموس السائد والمعتمد إلى حد التقديس بأن النظام أهم من الوطن والحاكم أهم من الشعب والمخبر أهم من المفكر! حسناً لقد أطلقوا سراح أحمد بن بللا، ولكنه الآن في الخامسة والستين، ثم هل تتصور كيف بات اليوم وبعد أربعة عشر عاماً من الاعتقال؟! إنه حطام إنسان!
رويدك! هذه ليست بشارة بعصر جديد، بل لعل الخبر أقرب إلى النعي المبكر واللائق لمناضل عظيم! إنها ليست نهاية لدهور القمع وكبت الحريات وعبادة السلطة والتفرد ورفض الحوار وضيق الصدر بآراء الآخرين وحتى بوجودهم، وهذا هو وطنك الكبير بين المحيط والخليج يعيش إنسانه ميتاً ويموت شيئاً فلا يستمتع بنعمة الحياة ولا يكسب أجر الشهادة!
انته! فهذه هي طائرة العدو فوق رأسك تتخير أهدافها على مهل وتمضي تاركة خلفها الأشلاء والركام وأطنان البيانات والتصريحات والتعليقات الصحافية والإذاعية والتلفزيونية! هيا ابحث عن ملجأ لجسدك، أما رأسك – بما فيه من آراء وأفكار واجتهادات وفلسفات – فلا حماية له إلا بالصمت، وقديماً قيل: لسانك حصانك إن صنته صانك! هيا إذن إلى طاولة وكأس، أو اذهب فاغرق نفسك في أي عمل تافه يستنفد جهدك وأعصابك ويقرب منك النوم بدل أن تمضغ القلق وتقربه من غيرك!
لكنه أحمد بن بللا هذا الذي يعود إلينا اليوم،
إنه الرمز النضالي المضيء لشعب الجزائر العظيم وللأمة العربية المجيدة!
إنه كل عربي عمره الآن ثلاثون سنة، أربعون سنة، خمسون سنة أو يزيد!
إنه نحن جميعاً الذين لم نسقط بعد والذين لا نريد أن نسقط! بل إنه كان وباستمرار، حتى وهو في معتقله، عاصماً لنا من السقوط.
إنه البندقية التي ارتفعت وهزتها الذراع العربية السمراء في وجه قوة القهر الاستعمارية الباغية والطاغية، الغاشمة والمهيمنة المستوطنة والمزورة للتاريخ والجغرافيا وحقائق الحياة جميعاً!
إنه روح الوحدة التي شدت اليمني إلى المغربي، والعراقي إلى التونسي والمصري إلى السوري مؤكدة حقيقة وحدة الأمة: فهذا نبضها واحد يندفع بزخم أسطوري مهيب بين المحيط والخليج متجاوزاً التيجان والعروش وكراسي الحكام والسلاطين، لاغياً كما السحر “منجزات” عصور القهر الاستعماري من حدود وسدود وجمارك وجوازات وتأشيرات وأجهزة متخصصة في استكشاف النيات وما في الصدور!
إنه إرادة القتال وثابة، جياشة، تصمد للحديد والنار والجيش اللجب والحدود المكهربة، وللمتخاذلين والمستسلمين لقدر الهزيمة فتنتصر عليها جميعاً وتمنح الإنسان المضطهد في كل أرض أملاً ووعداً ناجزاً بغد أفضل!
إنه النصر مشرقاً، غلاباً، صادقاً كالفجر،
إنه ذلك الهاتف في مطار القاهرة “أنا عربي، عربي، عربي” مختصراً بهذه الكلمة دهوراً وتاريخاً من محاولة الإذلال والمسخ وتزوير الهوية والانتماء.
إنه أحمد بن بللا هذا العائد إلينا من أسار الظلم والعنت،
إنه إعلان بعودة “بعض” حريتنا إلينا،
إنه اعتراف نبيل بأن الاحتجاز والحبس والمنع والتسلط لا يخدم قضية الإنسان ولا يفيد في بناء الأوطان، بل إن هذه الأمراض الخبيثة تمكن أعداء الأمة منها إذ تجعلها عاجزة خاوية ومستكينة لفارض القيد الجديد!
وليست هذه المبادرة الشجاعة إساءة بعد الموت لهواري بومدين بل إن تحرير أحمد بن بللا هو – في الوقت ذاته – تحرير لهواري بومدين من خطأ ارتكبه، رحمه الله، وظل يرافقه مثقلاً عليه حتى وفاته.
لقد علمتنا التجارب إن تحرير الأرض لا يكون بإنسان مستعبد أو مذل أو مقهور، وتحرير أحمد بن بللا، باعتباره يمس ويخص كل إنسان عربي، خطوة في الاتجاه الصحيح: حرية الإنسان وحماية كرامته وعزته وأنفته وشرفه وبالتالي وعيه لحقوقه المغتصبة.
وتحية للجزائر العظيمة: الجزائر التي لم يصنع ثورتها فرد ولن ينهيها فرد، ولكنها بهذه الخطوة تعيد الاعتبار إلى كل من ناضل في سبيل تحررها واستقلالها وعروبتها، في الداخل كما في الخارج،
فأحمد بن بللا هو البشارة الآن كما كان في غرة نوفمبر 1954، بل قبل ذلك بزمان.

Exit mobile version