طلال سلمان

على الطريق هوامش على صفحة الهزيمة…

صار الكلام أكثر إيلاماً من الصمت الأسود بالحزن أو باليأس أو بالإحباط والخيبة أو بكل ذلك معاً.
ما قيمة الكلمات المرصوفة سطوراً إذا كانت الكلمة مجرد تابوت لمضمونها؟
… أو صارت صدى أجوف منقطع الصلة بالصوت ومصدره، يخدش كرامة الحزن الأخرس ولا يبشر بحركة أو بشمس طالعة أو بمطر سيفجر خصب الأرض ويسقي العطاش الهائمين على وجوههم في ليل الهزيمة الدامس؟!
ومحزن أن تشيّع مع الكلمات ومضامينها (القديمة!!) عمرك وأحلامك ووهج الفرحة في عيني طفلك، وإحساسك بالقدرة على تغيير الكون (!!)…
لكن المحزن أكثر أن يسكنك الشعور بأنك قد هزمت ولما تعاركن وإنك قد خسرت حياتك التي لما تعشهان وأن تسقط راياتك التي لما ترفعها على السواري، وغنك قد خذلت التاريخ الذي استنصرته واتخذته سيفاً فلما افتقد الساعد المعافى تحول من شاهد إلى قاض وحكم بنفيك إلى خارجه حتى تبلغ رشدك أو تعود إليه!
هل هو كلام خارج السياسة، بينما “السياسة” تعيد صياغة حاضرنا ومستقبلنا، على الأخص، بالجغرافيا والتاريخ، بالثروة والسلطة والسلاح، بالمناهج المدرسية ولغة التخاطب اليومي وأصول العلاقات بين الجنسين؟!
هل قضي الأمر وبات علينا أن ننتظم في طوابير الضعة والهوان في انتظار أن تقرر واشنطن مصيرنا: من يبقى من “دولنا” ومن أنظمتها ومن “يطير”؟! ماذا يبقى من تقاليد أعراسنا وماذا يحذف مجاراة لروح العصر؟! وهل نستمر في استخدام لفظة “فلسطين” باعتبارها قضية لها شعبها ولشعبها حقوق ثابتة فيها أم نقنن نطقها فلا تقال إلا في المناسبات ذات الرنين المأساوي تاريخياً مثل موقعه “أحد” و”كربلاء” و”ميسلون”؟!
هل تذهب الأمة جميعاً بجريرة طاغية أشوه اسمه صدام حسين؟!
هل يلخصنا ويختزلنا جميعاً هذا الذي احترف قتل أهله، مادياً ومعنوياً، في حروب متصلة كانت معظم جبهاتها في الداخل وضد الداخل، واقلها في “الخارج” وبدم الداخل وعلى حسابه؟!
كم مرة يفرض على الضحايا أن يدفعوا “ثمن” الطاغية؟!
ثم هل البديل عن الطاغية الداخلي الاحتلال الخارجي، وكيف يقبل الثاني من كان يقاتل الأول بوصفه معبراً ومستدرجاً للخطر الأجنبي؟!
ها هو شعب العراق يعلن رأيه صريحاً في الفرصة اليتيمة التي أتيحت له والتي تجسد مفارقة مفجعة: يعلن إنه حي وإنه ضد الطاغية والطغيان في لحظة الاعلان عن نهاية العراق!!
ها هو يرفع صوته والسلاح الذي التقطه من جيش المنكوب بالقيادة المهزومة، لكن الاحتلال الخارجي – هذه المرة – هو الذي يمكن منه الطاغية إياه، فيسمح لصدام حسين باستخدام أرتال الدبابات والمدافع الثقيلة التي لم يستخدمها في “المنازلة الكبرى” مع “الكفار”، ضد الشعب المقهور في الجنوب المدمر وفي الشرق والوسط والغرب والشمال المبتلى باضطهاد تاريخي من قياداته كما من حكام بغداد المتعاقبين.
وحدها الطائرات ذات الأجنحة الثابتة محظور استخدامها بأمر صريح من واشنطن ولأسباب تخص قوات احتلالها وليس لإشفاقها على العراقيين الناهضين للخلاص من الطاغية!!
يذهب الوطن ضحية الطاغية، ثم يبقى الطاغية لأن دوره مطلوب بعد وضروري لإنهاء مزيد من أقطار الأمة ومن حقوقها ومن هويتها ومن سلامة رؤيتها ومن إيمانها بحقها في غد أفضل؟!
ومن تجربة مؤتمر “المعارضات” العراقية الذي نظم في بيروت، الأسبوع الماضي، تتبدى الخلاصة بائسة: الخلاص من الطاغية أبدى وأولى وأجدى (؟!) من تحرير الأرض… وإرجاء مقامة المحتل والسكوت على الاحتلال، بل ومحاولة الاستعانة بالاحتلال كل ذلك جائز من أجل الخلاص من الطاغية!!
لقد غيّب الطاغية الوطن، وألغى الشعب، وأسقط كل المقدسات، وعكس الأولويات، خصوصاً وإن فترة تحكمه قد طالت واستطالت حتى التهمت أجيالاً وقيماً ومفاهيم، فما عاد الناس يدرون من أين وبماذا عليهم أن يبدأوا؟!
إن “المعارضات” مهزومة على يد هذا السفاح المهزوم، والمنتصر الوحيد – حتى إشعار آخر – هو الأجنبي الذي أتاح له صدام حسين أن “يأخذ” كل شيء داخل العراق وأن يظهر بمظهر “المحرّر” و”المنقذ” و”المخلص”، من دون أن يشعر بالغضاضة اتهام العقيد معمر القذافي له بأنه مرتزق مأجور بالدينار الكويتي والريال السعودي،
مرحباً دينار، مرحباً ريال، فكله يصب في النتيجة في الدولار ويشتغل لحسابه!
هل للهزيمة قعر يمكنك متى بلغته أن تفترض إنك قد عثرت على نقطة بداية جديدة؟!
وهل بعد هزيمة مزلزلة كالتي فرضها الطاغية على العراق والأمة يمكنك أن تستنقذ ما ينفعك وما هو ضروري من أجل النهوض وتبين معالم الطريق نحو أهدافك الأصلية؟!
خصوصاً وإن هزيمتك متعددة المستويات: من الوطني إلى القومي إلى الأممي،
أو بلغة عقائديي الأيام الغابرة: من الذاتي إلى الموضوعي، تمتد لتشمل كل الأفكار وكل المسميات وكل الناس في أربع رياح الأرض، فموسكو تكاد تصبح مثل باريس وبون وطوكيو “حليفاً” اضطرارياً صعب المراس لكنه أعجز من أن يتحول إلى خصم، ناهيك بالعدو، يشاكس ويعاند ويتردد ويحاول التعديل ثم لا يجد بداً من الموافقة بشرط أن يحفظ ماء وجهه باعتباره “عزيز قوم ذل”!
إذن من أين تكون البداية، وما هي الأولويات بحسب مقتضى الحال، ومن هو المؤهل والمطالب بأن يضيء في قلب هذا الليل البهيم شمعة، ومن يبادر فيخطو الخطوة الأولى محدداً الاتجاه الجديد نحو الأهداف القديمة، ولو مموهة حتى لا تكتشفها الأقمار الصناعية التي تقوم في كبد السماء كعيون أميركية ساهرة على توطيد أركان الإمبراطورية الجديدة في أرجاء العالم، قديمه والجديد؟!
ماذا يمكن أن يبقى من لغة ما قبل “حرب الخليج”،
واين يمكن أن يقف العرب، أو من تبقى منهم، في ضوء نتائجها؟!
وهل من سبيل لاستعادة الحد الأدنى مما هو مشترك بين العرب في المشرق والمغرب؟!
هل ما تزال الأمة أمة واحدة، وهل ما تزال معنية بإثبات وحدتها “المبدئية” عبر عمل سياسي مشترك، تمهيداً لقيام المؤسسات الجامعة؟!
هل ما يزال ثمة معنى لجامعة الدول العربية ومؤسساتها من ميثاق الدفاع العربي المشترك إلى مكتب مقاطعة إسرائيل (؟!)، إلى مشاريع الوحدة الاقتصادية أو التكامل أو السوق العربية المشتركة، وصولاً إلى “اليونسكو” العربية … بل حتى إلى مجمع اللغة العربية؟!
هل تبقى من معنى للاتحادات المهنية العربية: اتحاد المحامين العرب، اتحاد العمال العرب، اتحاد الصحافيين العرب، اتحاد الكتاب والأدباء العرب، اتحاد المهندسين، اتحاد الإذاعيين، اتحاد المؤرخين، اتحاد الجغرافيين الخ الخ.
ومؤسسة القمة العربية… هل ما تزال قابلة للحياة، وبأية شروط ولأية مهمة؟!
ثم…
هل بين العرب من يعتبر إنه خارج الهزيمة، وإنه بالتالي غير معني بنتائجها؟!
هل بينهم وأهم بأنهم قد انتصر، وينتظر الآن أن يناله نصيب من مجد النصر إضافة إلى المغانم والأرباح والأسلاب والسبايا؟!
… وهذه القطيعة شبه المعلنة بين المشرق والمغرب، من هو المعني بعلاجها ومحاولة إيجاد أرض مشتركة تتجاوز المواقف المتعارضة التي اتخذها هذا النظام أو ذاك قبل الحرب أو خلالها، وبهدف “غريزي” واحد هو: حماية النوع أو الجنس!!
وأين تقع فلسطين، قضية و”دولة” ومنظمة تحرير وانتفاضة مجيدة، في المرحلة الراهنة، وماذا ستفعل بها التداعيات المنطقية للهزيمة الجديدة؟!
لقد أخطأت قيادة المنظمة، مرة أخرى، في الخيار والرهان والحساب، ومن الطبيعي أن تحاسب على أخطائها،
ولكن من هو صاحب الحق بمحاسبتها؟! الفلسطينيون من العرب، أم العرب كلهم، أم الآخرون؟!
والأهم: هل تحاسب هي أم تحاسب فلسطين، الشعب والأرض والقضية؟!
ولقد يكون ضرورياً أن يحاسب الفلسطينيون (والعرب) قيادة منظمة التحرير بغض النظر عن محاسبة الحليف الأكبر “للرئيس” ياسر عرفات، الطاغية صدام حسين… لكن شرط المحاسبة أن تكون “قومية” لا أن تتحول إلى تناتش الكيانيين الآخرين والإقليميين الآخرين لهذه القضية القومية التي شكلت وما تزال الرباط المقدس بين العرب وأعطتهم الفرصة لإثبات جدارتهم بالحياة عبر نضالهم المشروع ضد مشاريع الهيمنة الأجنبية وخطط الاستعمار الاستيطاني ومقاومة الإمبريالية والصهيونية والتمييز العنصري والدفاع عن حقوق الإنسان في أرضه وفي ممارسة إرادته فوقها.
بعد كل هزيمة يلتفت العرب إلى أنفسهم متسائلين: هل المسؤول هو الطاغية وحده أم إننا جميعاً مسؤولون؟! وهل مسؤولية المواطن تجب مسؤولية الحاكم وتلغيها عملاً بقاعدة “كما تكونون يولى عليكم”، أم إن عليه أن يبدأ بمحاسبة نفسه من خلال إسقاط حاكمه (ونظامه) ليستعيد مع الجدارة شعوره بالبراءة، وهي ضرورية لكي يميز بين ما هو خطأ وبين ما هو صحيح؟!
وبعد كل هزيمة تدور ملايين الأسئلة والتساؤلات حائرة في صحراء الموت والفجيعة والشكل العام، ثم تخمد نار الحنق ويسود صمت الخنوع للأمر الواقع، ويطغى الهم اليومي على ما عداه، وتستشرس الفردية مكملة مهمة الهزيمة، فإذا كل مشغول عن الآخرين ومشغول عما كان، وعما هو آت بما هو راهن… في انتظار الهزيمة التالية.
هل سجلت اسمك، في قائمة المنتظرين… أم إنك تحاول العثور على جواب ما يكون نقطة البداية لعصر ما بعد آخر الحروب وآخر الطغاة وبالتالي آخر الهزائم؟!

Exit mobile version