طلال سلمان

على الطريق هوامش بقاعية على استضافة صاحبي الدولة

زعقت زمارات الدولة وصافراتها المعولة كالثاكل، مرتين خلال أسبوع واحد، وعلى امتداد مسافات قياسية، وليس في شارع وبعض شارع، مبشرة باعتراف الحكم، أخيراً، بتلك المجموعات “المشبوهة” من اللبنانيين الذين لوجوههم لون الأرض ولطباعهم قسوة التوحد في التخلف الذي كطقسهم لا يعرف الاعتدال، مع أن لقلوبهم رقة النسيم المندى بالفجر.
وكالعادة، فقد جاء بعض “أصحاب الدولة” ولم تأت الدولة التي يتعبها السفر الطويل على طرق ضيقة تنتظر موافقة الطوائف لتوسيعها وتزفيتها، إلى الملحقات.. برغم أن العديد من أبناء الملحقات يتسنون الآن مناصبها القيادية، لكن الحكم ما زال ينتظر أن يعترف به جبل لبنان فكيف “يهاجر” قبل أن يطمئن إلى مصيره في المركز؟!
ما علينا…
المهم أن البقاع قد استضاف، ولو لساعات، بعض رموز الحكم، مرتين خلال أربعة أيام: الأولى عصر الخميس الماضي في قرية “خيارة” قريباً من قلب البقاع الغربي لمناسبة افتتاح “مدينة البقاع الرياضية”، وقد شاء بناتها الميامين أن يمنحوا هذا الشرف لرئيس الحكومة رفيق الحريري،
.. والثانية ظهر أمس الأحد في الهرمل، أقصى البقاع الشمالي، لافتتاح “مدرسة الإمام موسى الصدر” الخاصة التي جهدت حركة “امل” في بنائها، وبالتالي فقد جاء رئيسها – رئيس المجلس النيابي نبيه بري، لافتتاحها ووضع حجر الأساس لمشروعات “حركية” أخرى.
أي أن الأول قد ذهب بلقبه الرسمي، في حين ذهب الثاني بصفته السابقة على المنصب واللقب، وكلاهما ذهب من خارج الدولة لا باسمها وليس لافتتاح منشأة أنجزتها في تلك الأرض شبه المحركة عليها!
ومع أن كلاهما كان يعبر البقاع في الطريق من وإلى دمشق أو اللاذقية، إلا أنها المرة الأولى لكل منهما يقصد البقاع بذاته، ويلتقي أهله، ولو على الطرق، أو في ساحة تضج بالعواطف والمطامح والأنفاس اللاهثة والوجوه الطافحة بالعرق والدهشة لاكتشاف أن “الباشا زلمي”!
جاء رئيس الحكومة ضيفاً على إنجاز متميز حققته عصبة من شباب البقاع الغربي بالجهد اليومي المتصل، بالتبرع السخي، كما بطلب المساعدة من كل قادر على تقديمها، وبالتنظيم الدقيق وحسن الإدارة والعقل المعاصر، يتقدمها عبد الرحيم مراد،
وجاء رئيس المجلس النيابي ليرعى افتتاح مشروع تربوي أنجزته حركة “أمل”،
أي أنهما كلاهما جاءا من دون الدولة ومن خلف ظهرها ولم يستحضراها بقدر ما أكدا غيابها (إلا بالزمارات) عن تلك المنطقة التي يحاول أبناؤها أن يعوضوا بجهدهم المباشر والتعاوني شيئاً من غياب الدولة الأبدي عن البقاع المضطهد في سمعته بأكثر مما هو مضطهد في واقعه الاجتماعي – الاقتصادي – الثقافي والسياسي بالضرورة.
وهكذا فإن الإنجاز في غرب البقاع ثم في شماله ليس مجرد شهادة للبقاعيين بل هو إدانة لـ “الدول” اللبنانية المتعاقبة و”أصحاب الدول” الذين لم يفعلوا إلا تثبيت تلك الصورة المبتذلة والمهينة عن “العصاة” و”الطفار” والقتلة وتجار المخدرات وزارعي الخشخاش والحشيشة الذين يتفرد البقاع بإنتاجهم، في حين أن أرباح “الأبيض” اصطنعت مدناً أسطورية الفخامة بعيداً عن هؤلاء “المطلوبين دائماً للعدالة بجريمة ما” إن لم يكونوا قد ارتكبوها بعد فهم في طريقهم إلى ارتكابها!
ما علينا…
اللافتات على خطين متوازيين، كلها تبدأ في شتورة، لكن “الحريرية” منها تذهب قدماً عبر تعنايل إلى مدخل برالياس ثم تنعطف يميناً عبر المرج نحو مركز عمر المختار التربوي ومدنية البقاع الرياضية المكملة له في “خيارة”.
أما المتجهة بالتحية إلى نبيه بري فتبدأ من جلالا – تعلبايا – سعدنايل ثم تمتد عبر أوتوستراد زحلة الجديد إلى الفرزل – أبلح – رياق وتصعد شمالاً في اتجاه الهرمل مخترقة عشرات القرى والبلدات والقصبات التي نادراً ما يعبرها غير أهلها،
ماذا تقول اللافتات، التي جاءت لتتقاطع مع لافتات سبق رفعها قبل شهر في تحية الجيش في عيده (أول آب)، والتي تخترقها لافتات دعائية لبعض سلاطين الطرق وملكات الرقص وأميرات الجمال فضلاً عن بعض المطاعم وصالات الأفراح ودعايات لبضائع أشكال – ألوان؟!
*الملاحظة الأولى: إن لافتات الترحيب بالحريري شخصية أكثر منها سياسية، ولعل اشتمالها جميعاً على لقب “الشيخ” يشي بما تقصده أو يومئ إليه رافعوها. (وأغلب الظن أن الحريري لا ينتبه إلى أن هذا اللقب ينتقص من أهليته ولا يضيف إليها. إنه يضمر الإشارة إلى “غربته”، وضمناً إلى “سعوديته”، واستطراداً إلى ثروته… وهذا التمييز قابل لأن يتحول من مصدر مباهاة إلى سبب للغمز واللمز والانتقاص من الاستحقاق والطعن بطبيعية الوصول).
* الملاحظة الثانية: في لافتات الترحيب ببري كان الجنوب هو الحاضر الأكبر، وكان القصد واضحاً في التوكيد على أن شرعية “الأستاذ” مستمدة من جنوبيته، وإن مساهمته في رفع راية المقاومة أعطت لدوره في الحرب بعداً آخر فجعلته في موقع صاحب القضية وغفرت الكثير من الأخطاء التي رافقت النصر وشوهته أحياناً، بكونه “ضحية”.
ولعل البقاعيين عموماً وأهالي منطقة بعلبك – الهرمل خصوصاً، كانوا يذكرون من لا بد من تذكيرهم بأنهم هم أيضاً قد ساهموا بدمائهم في تعزيز صمود الجنوب، صمود لبنان، مع التحسر على أن كثيراً من ذلك الدم قد أريق في غير ساحته الصحيحة والتهمته نيران الفتن “الحزبية” في زمن الاقتتال الأهلي غير المبرر على أرض جبل عمل الأسير.
يكاد يكون لكل قرية بقاعية شهداؤها في الجنوب ومن أجل الجنوب، بعضهم من داخل حركة “أمل” أما أكثريتهم الساحقة فعبر الأحزاب والتنظيمات جميعاً من الحزب الشيوعي إلى “حزب الله” ومن الحزب القومي إلى حزب البعث الخ.
*الملاحظة الثالثة: في المناطق المختلطة، دينياً، كان التركيز على وحدة لبنان ورمزها الدولة ووحدة الدولة والمؤسسات ولا شيء غيرها، وإن كانت مشوشة بالتعابير المستهلكة من نوع “التعايش المشترك” وغيرها من مخلفات زمن الحرب. قبلها لم تكن ثمة حاجة لتوصيف حياة الشعب الواحد في البلد الواحد. مثل هذه الحياة لا توصف إلا بذاتها.
*الملاحظة الرابعة: إن تراث الحرب الأهلية لم يسقط برمته، وما زالت بقاياه تطل برأسها حيث يمكنها الانقسام. فالمذهبيات تملك بعد أسلحة فعالة للدفاع عن نفوذها. كل مذهبية تتعصب “لرئيسها”، لكنها تموه نفسها بتقديمه بوصفه باني المؤسسات ومجدد بناء الدولة، أي أنها تمدحه بما لا تريد له أن يكونه، أو بما ليس فيه، إذ لو كان كما تصفه لانفضت عنه وعادته.
*الملاحظة الخامسة: إن البقاعيين الذين يعيشون، وأكثر من سائر أخوتهم اللبنانيين، في أسار الضائقة الاقتصادية الخانقة، لم يتورعوا عن ذبح أكثر من مئتي رأس ماشية (معظمها من الغنم وبينها عدد لا بأس به من العجول إضافة إلى بعض الجمال).. ترحيباً بمقدم من يمثل الدولة ويشعرهم بأنها إنما تتذكرهم ولو عبر أشخاص في الحكم، إن لم يكن عبر خططها ومشروعاتها العتيدة للنهوض الاقتصادي على قاعدة الإنماء المتوازن!
*الملاحظة السادسة: أصدق اللافتات أبسطها، ولذلك كانت تلك اللافتات البسيطة والضائعة في بحر النفاق السياسي، واليت ترحب بالفرق الرياضية الآتية من سوريا ومصر وقطر، والمحاصرة والمحصورة في ساحة شتورة وبعض المفارق المؤدية إلى المدينة الرياضية، تشهد على أن للبقاعيين هوايات أخرى غير تلك التي يذكرها “السجل العدل” كجرائم مشينة.
غداً ستبهت ألوان الصور الفخمة التي علقت على أخشاب على طول الطرق البقاعية، وسيصير للابتسامات والملامح المرتسمة على وجهي أصحاب الدولة معان غير التي كانت لها،
مع ذلك نأمل ألا تصبح هاتان الزياراتان محطتين في الذاكرة الشعبية كمثل “سفربرلك” أو “ضرب المحطة في رياق” أو اقتحام “القوات اللبنانية” زحلة، أو لقاء الخيمة على الحدود بين الراحلين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب.
نأمل أن تدخل الدولة البقاع وأن تدخله في تفكيرها،
وعذراً لنبرة “التعصب”، لكن الإهمال مستفز كما التجال المتعمد!

Exit mobile version