طلال سلمان

على الطريق هدنة تحفظ الهوية و”ربط نزاع” للمستقبل

عشية الانتصار في المعركة الوطنية والقومية ضد اتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلين احتدم الصراع بين نظريتين متعاكستين:
كانت الأولى تقول إنه خير للبنان أن يحظى برئيس جديد له سياسة مختلفة كلياً عن نهج أمين الجميل (المطروح مصيره كرئيس على بساط البحث جدياُ آنذاك)، وأكثر انسجاماً مع طبيعة التحولات التي استولدتها مقاومة الاجتياح الإسرائيلي في صيف العام 1982 وتداعياته المنطقية، خصوصاً وإن الرئيس القائم بالأمر من بيئة معينة مدموغة بطابع التطرف الفئوي، ومن بيت بعينه اقتحم السياسة من باب المزايدة الطائفية على عتاة رموزها وقياداتها التاريخية (ومن بينهم كميل شمعون)…
أما النظرية الثانية فكانت تقول: بل من الأفضل أن يلغي اتفاق 17 أيار الرجل الذي ورط البلاد في عقده، أمين بيار الجميل بالذات، ابن حزب الكتائب ورمز صعوده إلى قمة السلطة، بفضل الحرب الأهلية وفي مناخها وفي ظل التحالفات التي أباحتها وبررتها تلك الحرب المتعددة الأطراف، بما في ذلك العلاقة مع العدو الإسرائيلي.
وكان للقائلين بالنظرية الثانية رؤياهم التاريخية، فليس أمراً هيناً أن يسقط في ذهن الكيانيين وأصحاب الحنين إلى وطن قومي قاعدته الدين (أو الطائفة) كإسرائيل، مثل هذا الرهان المستحيل والمتناقض أولاً وأساساً مع طروحات العرب المسيحيين عموماً، واللبنانيين منهم بنوع خاص، إلى لعب دور متميز – أكثر حيوية وأفعل – في صياغة مستقبل الأمة العربية السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن داخل التسليم بانتمائهم إليها كاختيار وليس كموقف انتهازي أو منافق أو اضطراري محكوم بقهر الأكثرية للأقلية.
كان الافتراض أن تراجع الكتائبي، وابن بيار الجميل بالذات، عن مثل هذه السياسة الانتحارية، يعني سقوط مدرسة سياسية كاملة كانت ترى في “الأجنبي” ضمانة في وجه العربي “الطامع” وفي ممالأة الحاكم العربي القوي ضمانة في وجه اللبنانيين المؤمنين بانتماء لبنان وهويته العربية.
فالأجنبي ضمانة للكيان، والحاكم العربي القوي ضمانة للنظام، وفي كليهما امتيازات يدفع ثمنها المواطن اللبناني من حقوقه الطبيعية وبينها حقه في رفع الغبن وممارسة إنسانيته “والتمتع” بقيم فضلى من نوع العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
ولقد انتصرت بالنتيجة النظرية الثانية، فكان مؤتمر لوزان للحوار الوطني مكافأة لأمين الجميل، المكرس أو المعاد انتخابه يومذاك رئيساً للجمهورية بأصوات المعارضة (الداخلية والعربية)، بأمل أن يكون مستقبلاً غير ما كانه على امتداد الفترة بين 23 أيلول 1982 و21 آذار 1984، رجل إنقاذ وحل لا رجل حرب أهلية واقتتال وتمسك بالامتيازات وسائر مواقع الاصلاح السياسي، وهي هي للمناسبة مواقع تصحيح النهج السياسي على الصعيد العربي.
لكن ذلك الحلم لم يدم طويلاً، في أي حال،
وكانت المقدمات واضحة في لوزان ذاتها: فقد غيب أولئك الذين فتحوا لأمين الجميل باب دمشق بقوة تلك النظرية وجاذبيتها المنطقية، ثم وئدت في ذلك الفندق الفخم وهام الاصلاح والتغيير وحتى احتمالات تطوير النظام، عن طريق فرز المشاركين فيه على أساس طائفي ومحاولة دفعهم إلى التقاتل على أساس مذهبي.
اليوم وأمين الجميل يستعد للذهاب من جديد، إلى دمشق، تنتصب التجارب معه أشباحاً مقلقة تضعف الأمل في الوصول إلى قاعدة صالحة للتسوية الداخلية التي يمكن أن يرتكز إليها ما يسمى “مشروع الحل الوطني للمسألة اللبنانية” فالذهن، أو ما تبقى منه، ينصرف، في أحسن الحالات، إلى هدنة تتيح للبلد أن يسترجع الحد الأدنى من الحياة الطبيعية، لعل وعسى وفي ظل مثل هذه الهدنة المرتجاة يمكن الاستعداد لمواجهة الغد وأعبائه الثقيلة وقد استعاد الناس – أفراداً ومؤسسات شعبية ونقابية واجتماعية – القدرة على التفكير والتدبير متخففين من الضغوط الرهيبة للأوضاع المتفاقمة سياسياً وأمنياً واقتصادياً (وليرة أمين الجميل ستخلد مثل الليرة الرشادية أو الحميدية أو الإنكليزية، وربما أكثر)…
من هنا القول بإرجاء موضوع الاصلاح السياسي، برمته إلى ما بعد أمين الجميلز
يكفي أن نتوصل الآن إلى صيغة مقبولة “لربط النزاع” – بلغة القانونيين – ثم نترك الأمور ليحسمها – غداً، وفي ظل ظروف أخرى – الصراع السياسي الطبيعي بين تيارات لها وزنها ودورها وتأثيرها على صورة البلد العامة، وما يريده له أبناؤه.
فأمين الجميل الكتائبي، بالتربية والبيئة، بالتكوين كما بالارتباطات والمصالح التي يمثلها أو يعبر عنها، لم يستطع ولن يستطيع أن يكون إلا أمين بيار الجميل.
وهذا ليس تشهيراً بالرجل، أو انتقاصاً من جهد ربما يكون بذله ليتحرر من كتائبيته ويصير رئيساً لكل لبنان ولكل اللبنانيين، ولاسيما أولئك الذين لا يقولون قول الكتائب ويقاومون منطقها ونظرتها إلى “الكيان” و”طوائفه”، ويجعلونها طبقات ومراتب بعضها “ممتاز” وبعضها الآخر “مكتوم” أو إنه “سقط سهواً” عند توزيع الحصص،
ولأنه ابن هذه البيئة التي اكتمل نموها وتعبيرها عن نفسها وتطلعاتها بالحرب الأهلية، فهو قد فرض لغة التطرف، الطائفي بالضرورة، على جميع خصومه، والجاهم مضطرين إلى استخدام السلاح ذاته في مواجهة المشروع الفئوي للهيمنة على البلاد والعباد،
ومؤكد إن وليد جنبلاط كان يعد نفسه ليكون غير ما نعرفه اليوم، وكذا نبيه بري، ولقد حاول كل منهما، ولفترة طويلة، أن يصمد بشعاراته الأصلية، ثم أجبرتهما الحرب على أن يقاتلا تحت ظل شعارات أخرى، بغير أن يفقدا الأمل في أن يستطيعا الانعطاف بالمعركة، في ساعة معينة، إلى سويتها الأصلية وباستهدافاتها الأصلية: بناء لبنان الوطن الديمقراطي العربي المتحرر من الطائفية والطائفيين،
مؤكد أيضاً إن رشيد كرامي وسليم الحص ومن ماثلهما وقال قولهما، قد تبدلا بهذه النسبة أو تلك، وهما يواجهان معركة صريحة في استهدافاتها الطائفية إلى هذا الحد،
بل إن المفتي الشيخ حسن خالد، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وحتى البطريرك الماروني (السابق ثم الحالي) قد مروا بلحظات حرجة وقاسية، اضطرتهم – ومن مواقعهم – إلى رفع الصوت جهيراً ضد الطائفية السياسية والذين يوظفونها ضد وحدة البلاد ومصالحها العليا،
أما في الجانب الآخر فقد تنادى العديد من القيادات السياسية المارونية إلى موقف مفاده التحذير من التأثيرات المدمرة لهذه السياسة على مستقبل “الوجود المسيحي” في لبنان، والشرق،
في ظل هكذا هياج طائفي واستنفار متبادل متسم بالعدائية والخوف والقلق على المصير كيف يمكن الوصول إلى تسوية معقولة ومقبولة تصلح أساساً لحل وطني يحمي للبنان وحدته ويؤمن للبنانيين – جميع اللبنانيين – اطمئنانهم إلى مستقبلهم ناهيك بحقوقهم الإنسانية الطبيعية؟!
ثم إن العنصر الإسرائيلي قد اخترق النسيج الاجتماعي للبلاد وشعبها، ولا بد من فترة طويلة من النضال لحصره ثم لاستئصاله من غير أن يتمزق ذلك النسيج المتهالك بفعل الحرب الأهلية وتطوراتها المخيفة بين كل مرحلة من مراحلها، والمرحلة الأقسى التي بعدها…
هذا بغير أن ننسى العنصر الفلسطيني وانخراطه لفترة طويلة في هذه الحرب التي كانت بداية، موجهة ضد دوره السياسي، والتي تكاد الآن تهدد وجوه ذاته،
لهذا كله تبدو صعبة إلى حد الاستحالة التسوية الداخلية في ظل رئاسة أمين الجميل،
وهذا لا يعني تجديد المطالبة بخلعه أو إقالته أو استمرار القطيعة معه،
بل يعني أول ما يعني الفصل بين ولايته والمستقبل،
فلنترك صيغة لبنان الجديد إلى ما بعد أمين الجميل، أي إلى حين يستعيد الصراع السياسي في البلاد طبيعته الأصلية كصراع بين قوى ذات رؤى متباينة ومناهج وطروحات وبرامج سياسية متمايزة إلى حد التناقض، أحدهما هو الطرح أو المشروع الكتائبي، لكنه واحد من المشروعات وليس مشروع الرئيس بل النظام والكيان الخالد!
وبهذا المعنى فلتكن “الهدنة” هدف القمة وليس “الحل”،
أما المسائل الأخرى، ولاسيما الداخلية منها، فليترك أمرها للصراع السياسي، بشرط أن نستبقي هامشاً واسعاً لهذا الصراع، فلا نغلق باب المستقبل على أجيالنا الآتية، ولا نتسبب في خفض السقف “فنفطس” تحته.
وليكن موضوع اليوم: هوية لبنان ودوره القومي،
وحسم هذا الموضوع يوفر المناخ الضروري لابتداع الحل الداخلي وليس العكس.
والشرط دائماً : بالصراع السياسي وبغير سلاح أو مسلحين يقتلون الوطن والمواطن حرصاً على كرامة الطائفة أو مصالحها أو امتيازاتها، ويقتلون قبل هذا جميعاً عروبة لبنان: هوية وانتماء ودوراً.

Exit mobile version