طلال سلمان

على الطريق نواب التغييير بالحرب!

ليس لبنان – على أهميته الاستثنائية!! – كوكبا معلقاً خارج نطاق الجاذبية الأرضية وخارجاً على قوانينها.
وليس اللبنانيون – على قدراتهم الخارقة!! – جماداً أو جبابرة لا تؤثر فيهم الزلازل ورياح التغيير التي تبدل المعالم وتكاد تلغي أو تعدل الحدود والقيم والمفاهيم في الكون كله.
ولا يمكن النظر إلى ما حصل ويحصل في لبنان، قبل الانتخابات وخلالها على وجه الخصوص، وفق منطق الماضي الذي يعيش فيه الكثيرون ويرفضون مغادرته لانهم لم يهيئوا أنفسهم لغيره.
إن ثمة مجتمعاً جديداً له قواه الجديدة التي ولدت خارج القواعد والأعراف العتيقة التي ظلت مألوفة ومعتمدة في الحياة السياسية اللبنانية طيلة نصف قرن، أي طيلة عهود ما بعد “الاستقلال” وحتى انفجار الحرب الأهلية وتطورها وتوالي محطاتها المتعددة والخطيرة دلالاتها.
وأبرز تلك المحطات من صنع ما يمكن تسميته “الأصولية المسيحية”: انتخابات الرئاسة العام 1982، ووصول “قائد” تلك الأصولية إلى سدة الحكم في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ثم شغور الرئاسة في العام 1988 وقد تسبب فيه “القائد الرديف” ووكيل الميت، وهو الابن البكر لمؤسس تلك الأصولية (بيار الجميل)، ثم اصطناع الانقلاب العسكري الناقص بتكليف جنرال الأصولية إياها بتولي الحكم حتى لا يقع في يد “الآخرين”.
ليس هذا كلاماً في الحرب، بل هو محاولة لاستخلاص بعض الدروس السياسية التي فعلت فعلها في الموقف من الانتخابات (ومما سبقها من تحولات)، ثم فعلت فعلها – على الضفة الأخرى – عبر الانتخابات ونتائجها التي لعلها أصابت العديد من اللبنانيين (وسائر العرب) بصدمة عنيفة.
فليس ما يقع في الحاضر مجرد امتداد آلي لما كان في الماضي،
ولم تكن الحرب الأهلية جملة معترضة وخارجة على السياق ترفع فينتظم وينصل بغير خلل وكأن شيئاً لم يكن.
لقد مات الكثير من لبنان القديم.
سقط الكثير من أبنائه البسطاء في المعارك، وسقط أيضاً الكثير من قواه المنظمة ومن قياداته السياسية ومراجعه الدينية.
وسقط عبر التحولات التي كانت تبدل العالم، بينما نحن في شاغل من همومنا اليومية عنها، الكثير من علامات ومصادر قوة النظام اللبناني عربياً ودولياً.
صار لبنان غير ما كان، فالأصولية ليست هي المسيحية، (كما أنها ليست الإسلام تماماً).
وتراجعت أوروبا من الصدارة مكتفية بالدور الذي تقرره لها وتسمح به الولايات المتحدة الأميركية،
وكان على الفاتيكان أن يتعلم الإنكليزية وأن يرتضي بشرف الريادة (في بولندا مثلاً) تاركاً للقادر على استثمار النتائج أن يقرر قواعد اللعبة ومرتكزات النظام العالمي الجديد.
وهكذا خسر لبنان دوره العربي، من دون أن تعوضه التحولات رعاية دولية استثنائية تمكن أهل نظامه من مواصلة ادعاءاتهم بأن قيادات العالم الحر لا ينام قبل الاطمئنان إلى أنهم بخير.
لقد سقطت “الفرادة”، فمع سقوط الشيوعية ومعسكرها الاشتراكي ومختلف الأنظمة التي كانت تدعي التمرد على النظام الرأسمالي، لم يعد النظام اللبناني “فريداً” وواحة للاقتصاد الحر في عالم ترجه ريال الماركسية اللينينة ونظم الاقتصاد الموجه حيث السيادة للقطاع العام وحيث المبادرة الفردية ملجومة بضوابط الربح المشروع.
سقطت الفرادة واستمرت مؤسسات الماضي تناضل لمصادرة المستقبل، بتغيير جلدها وادعاء الخروج من ماضيها وإعلان استعدادها لخيانته.
الطريف إن ما كان من تلك المؤسسات طائفياً وشبه أصولي اندفع يرفع راية العلمانية، في حين ما كان به علماني ارتد يحاول توكيد “احترامه” للأديان وكذا للطوائف والمذاهب و”أحزابها” التي ولدتها تشوهات الحرب ومحاولة استباق التحولات الدولية.
كان المجتمع يتبدل بتأثير الوقوعات الخطيرة في الداخل والخارج، وكان مما يسرع حركة التبدل انسحاب القادرين وتساقط رموز الطبقة الوسطى.
اندفع المال هارباً بأهله إلى الخارج، وتصرف أولئك الذين جنوا ثرواتهم الطائلة قبل الحرب أو عبرها وحتى بعدها وكأنهم مجرد مستثمرين عابرين يبحثون عن فرص ربح سريع، فإن لم يجدوها هنا بدلوا “الوطن” وأكملوا حياتهم مستفيدين من جوازات السفر الدبلوماسية والخاصة (ريثما يحصلون على جوازات جديدة محترمة!!) ومن ألقاب التشريف التي منحوها لأنفسهم يوم كانوا أصحاب الحل والربط.
بقي في البلد الفقراء،
والفقراء أكثر من أن تستوعبهم الهجرات المنظمة وترتيبات اللجوء السياسي الدقيقة في ترتيباتها وأكثر أيضاً من التاشيرات المخصصة للبيع، ومعظمها مزور.
وهؤلاء الفقراء، بمجاميعهم الهائلة، هم الذين اقترعوا في هذه الانتخابات التي لا يمكن وصفها بالمثالية،
هم اقترعوا في بعلبك – الهرمل، وفي الشمال بمدينته وأطرافه، وفي بيروت المثقلة بهمومها كما في ضاحيتها – الضحية.
ولقد اقترعوا لمن يعرفونهم، ولمن لم يتخلوا عنهم في زمن البؤس.
لقد اقترع الفقراء للفقراء. اقترع الذين بلا أسماء رنانة وذاتب عبق تاريخي للذين بلا أسماء وبلا ملامح محددة وبلا تراث من العراقة تجلله شجرة العائلة المباركة والمعتمدة منذ نابليون الثالث، أو ربما منذ لويس التاسع، أو أقله منذ الجنرال سبيرز وحتى اليوم.:
الأغنياء والقادرون وأبناء العائلات في المعارضة التي اندفعت إلى أبعد حدود المقاطعة،
إذن فليتقدم الفقراء والمجهولون الملتحون وأصحاب الذمة ليحتلوا المقاعد الشاغرة في البرلمان الذي كان دائماً أداة “تحلل” – بالقانون – اضطهادهم واستبعادهم وحرمانهم من خيرات النظام الفريد.
يمكن أن يقال أيضاً: طالما أن “الأصولية المسيحية” قد استنكفت واعتكفت وبدأت عملية خروج منظم من النظام (وعليه)، فقد تقدمت “الأصولية الإسلامية” لتحتل مكانها خصوصاً وإنها معافاة وعلى عتبة النضوج وتتمتع بكثير من الزخم وأسباب الدعم التي يزودها بها “المحيط،
فالخيبة والمرارة والهزيمة قد تحدث نوعين متبايني تماماً من ردود الفعل:
البعض قد يهرب بنفسه إلى النسيان، بأية وسيلة، وقد يخرج نفسه باليأس إلى نوع من الموت البطيء، أو إلى البحث عن “مهنة أخرى” وربما “وطن آخر”،
والبعض الآخر قد يندفع بصلابة أعظم، بل وبشيء من الشراسة، لمحاولة كسر دائرة الهزيمة والحلقة الجهنمية لليأس والمرارة القاتلة.
وليس الذين نجحوا باسم “الإسلام” نواباً لليأس، أو مجرد رد فعل على انسحاب “الأصولية المسيحية”.
كذلك فليسوا مجرد ثمار فجة للحرب الأهلية،
ولكنهم أحد وجوه التغيير الذي أصاب المجتمع اللبناني وحياته السياسية،
وهو قد لا يثير الإعجاب،
لكن لا مبرر لأن يثير الغضب والاستهجان.
فكل الكون يتبدل، وماذا إذن لم اقتحم بضعة نواب ينتمون إلى بعض أنماط الأصولية الإسلامية البرلمان الذي اصطنعته ذات يوم أصولية أخرى تنتمي إلى عالم آخر؟!

Exit mobile version