طلال سلمان

على الطريق نظرة عربية إلى واشنطن “اللبنانية”!

من الضروري أن يتم التعاطي، لبنانياً، مع الدور الأميركي في المفاوضات لإجلاء المحتل الإسرائيلي، وخارجها أيضاً، بكثير من الحذر والتحفظ وعدم التوقيع على بياض والاطمئنان إلى حسن النوايا وأخلاقيات الرئيس رونالد ريغان!
فالسياسة، عموماً، وسياسة الدول العظمى تنطلق أولاً وأخيراً من المصالح، ولا أثر فيها – في الأغلب الأعم – لا للنوايا ولا للأخلاقيات ناهيك بالعواطف والمشاعر الشخصية واتجاهات الرأي العام.
في ضوء هذه الحقيقة لنعرض، بسرعة شديدة وبإيجاز، طبيعة الدور الأميركي في المنطقة من حولنا:
1 – لا حاجة لطويل شرح عن طبيعة العلاقات الأميركية – الإسرائيلية ويكفي أن يقال إن الولايات المتحدة هي ضامن الوجود الإسرائيلي وحاميه، بالسلاح والمال والرجال، بالأساطيل وخطط الهيمنة الاستراتيجية على المنطقة التي تشكل إسرائيل بعض نقاط ارتكازها.
وفي موضوع لبنان كان واضحاً منذ اللحظة الأولى إن “الوسيط” الأميركي لم يدار ولم يخف موافقته المطلقة على “الشق الأمني” من الطلبات الإسرائيلية في المفاوضات.
وبهذا المعنى فقد تحول “الوسيط” إلى “قوة ضغط” على الطرف اللبناني ليسلم بمعظم الشروط الإسرائيلية التي سميت “ترتيبات أمنية”… وفي الحالات التي تصلب فيها اللبناني ولم يتراجع الإسرائيلي، دخل الأميركي شريكاً مضارباً فتعهد له بأن يتكفل “هو” بحماية أمنه انطلاقاً من لبنان، بمعنى أن يتولى هو “الإنذار المبكر” و”الرقابة”، أي أن تكون القواعد العسكرية له والملعومات “المطمئنة” للإسرائيلي، وكل ذلك على حساب اللبناني الذي… لا يهزه ريح!!
2 – مع سوريا لعبت الولايات المتحدة الأميركية، وما تزال تلعب دوراً غاية في التعقيد، وإن كان يمكن تلخيصه بتسميته “الاستنزاف عن طريق الإغراء فالتوريط فالتخلي”… في انتظار طلب النجدة للإنقاذ وفق الشروط الأميركية، التي لا تختلف هنا بكثير أو قليل عن الشروط الإسرائيلية!
ولقد بلغ هذا الدور ذروة تجليه في لبنان مرتين: مرة في العام 1976، ومرة في العام 1982 (وفي حزيران دائماً)، وكان بين النتائج المباشرة في المرتين إفساد علاقة السوريين بالفلسطينيين (واللبنانيين) وإضعاف الموقف العام لحساب الإسرائيلي، وضمن خطة الهيمنة الأميركية الشاملة.
3 – مع الأردن أدخلت الولايات المتحدة الملك حسين في لعبة خطرة مع منظمة التحرير، هي أقرب ما تكون إلى “الروليت الروسية”، الشهيرة، مع إلغاء هامش المناورة من أمام الرابح ضماناً لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة (أو معظمها) ومعها قطاع غزة.
4 – في الخليج تلعب واشنطن دور المحرض على استمرار الحرب، مع وعيها الكامل لنتائج هذه الحرب، على مستقبل العرب، في العراق والخليج، والإيرانيين. فالأميركيون هم الذين أقنعوا حكام السعودية أساساً (ومعهم حكام الإمارات) بتمويل مقتضيات الحرب، وتغذية العراق بقروض مباشرة قدم نفطه ضماناً لسدادها في المستقبل.
5 – في مصر تلعب الولايات المتحدة دور الكابح لأي توجه عربي، وهي تحرض نظام حسني مبارك (وقاعدته ساداتية)، ضد العرب، باستمرار ، كما تحرض سائر العرب (ولاسيما السعودية ومن معها) ضدها.
وإذا كانت واشنطن (ومعها تل أبيب) تعتبر إن الإنجاز الأعظم الذي حققته – استراتيجياً – في المنطقة هو إخراج مصر من ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، فإن جهدها لحماية هذا الإنجاز يتطلب إبقاء مصر ضعيفةن بل ومتهالكة، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وأقصر طريق لتحقيق ذلك هو استمرار محاصرة مصر وعزلها عن العرب وعن العالم. والعالم هنا لا يعني فقط المعسكر الآخر (الاشتراكي) بل حتى أوروبا الغربية، وبعدها كتلة عدم الانحياز والأقطار الإسلامية، وكل ما يتعدى حدود الكيان الصهيوني والفلك الأميركي الفسيح!
6 – بين المغرب والجزائر لا حاجة لتفاصيل ووقائع كثيرة لتأكيد الدور الأميركي المؤثر في إشعال حرب الصحراء، ثم في العمل على إدامتها ما أمكن. لقد كانت واشنطن تميل في اتجاه الرباط أو في اتجاه الجزائر وفقاً لمؤثر ميزان القوى، فتظهر الميل والتضامن مع الجانب الذي يظهر شيئاً من الضعف، فإذا استقوى مالت إلى الخندق الآخر لتضمن استمرار الحريق المدمر!
7 – أما في السودان والصومال وجيبوتي فإن الولايات المتحدة تعمل على إبقاء الجميع في حالة عزلة، وفي حالة عوز، فإذا ما كاد الوضع الداخلي في أي من هذه الأقطار يصل إلى شيء من الاستقرار حركت له جبهة على حدوده أو أغرته باقتحام الحدود الهشة تحت ستار المطالبة بحق مضيع، حتى تضمن السيطرة المطلقة والمستمرة عليه باستمرار حاجته الشديدة إلى مساعدتها مهما كانت زهيدة.
8 – في ضوء هذا كله نصل إلى التحرشات الأميركية الجديدة بالجماهيرية العربية الليبية، والتي ترتدي مرة أخرى طابعاً عسكرياً، لكن أخطر ما فيها حالة الاستنفار أو الاستعداد السياسي للأقطار المجاورة بحيث يبدو الأميركي وكأنه “قوة فصل” أو “شرطي” مكلف نفسه بمسؤولية الحفاظ على الاستقرار في المنطقة!
ولا بد هنا من ملاحظة التوقيت الأميركي للتحرش بليبيا، التي لم يطرأ جديد لا على موقفها من الإدارة الأميركية ولا على علاقاتها بجيرانها. بغض النظر عن طبيعة العلاقات السيئة أو المتدهورة أو حتى العدائية مع حكام هذه الأقطار (وبالتحديد السودان وتشاد).
لقد جاء التحرش في وقت تصل فيه المفاوضات اللبنانية مع المحتل الإسرائيلي إلى “النقطة الحرجة”، التي قد تكون منطلقاً لاتفاق سريع الفضل فيه للأميركي، أو لخلاف جديد يطول على الأميركي علاجه وسط احتمالات مفتوحة للتطورات في المنطقة وفي العالم.
وفي حين يفترض أن تتوجه الضغوط العربية أو ما تيسر منها لإلزام الأميركي بلعب دوره “المفترض” في التسريع بإجلاء الإسرائيلي، عن أرض لبنان العربي، يفتح هذا الأميركي جبهة جديدة، يزج فيها ببعض العرب ضد بلد عربي، بحيث تتوزع المجهودات العربية الرسمية بين تمني المساعدة الأميركية ضد طرف عربي، وبين التمني على واشنطن أن توقف اللعبة التي أطلقتها، أو التوجه إليها برجاء عدم الإحراج… وفي كل الحالات يخف تركيز الاهتمام على لبنان وما يدبر له!
وصحيح إن تكتيك واشنطن لتصوير الموضوع وكأنه استمرار للنزاع المصري – الليبي الموروث عن السادات و”إنجازاته” قد أجهض، بالمواقف الفورية التي صدرت عن كل من طرابلس والقاهرة، إلا إن إمكانات تصويره وكأنه امتداد للنزاع السوداني – الليبي مفتوحة، وقد هرب إليها جعفر نميري على الفور لينسب مشاكله الداخلية الهائلة وعجزه عن حكم هذا البلد الطيب والغني إلى معمر القذافي ولجانه الثورية!
أما حسين هبري فلم يكن بحاجة على مثل هذا العرض الأميركي السخي ليقدم نفسه كضحية “لإرهاب” جيرانه الليبيين، في حين إن الحرب الأهلية التي تنهش بلاده ترجع بتاريخها إلى الإرث الاستعماري (الفرنسي) الفظيع والثقيل الوطأة.
هذه عينات سريعة عن طبيعة الدور الأميركي في المنطقة العربية، وهي تقول ببساطة وبوضوح: إن من يتىمر، مباشرة أو بالتحريض أو باستعداء الآخرين، على معظم الأقطار العربية، لن يكون “قاضياً شريفاً” أو “حكماً نزيهاً” في المفاوضات لإجلاء المحتل الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية.
وإذا كان لا غنى عن الدور الأميركي، ولأسباب موضوعية، فلا أقل من أن نكون متنبهين تماماً بحيث نقبل منه ما يمكن أن نقبل ونرفض ما لا بد من رفضه.
… مع أطيب التحيات للمكوك فيليب حبيب، الذي لم نلمس للبنانية أجداده أي أثر، بعد، وللمستر درايبر، في عيد ميلاده، الذي تسنى له هذه المرة أن يسمع “سنة حلوة يا جميل” بإنكليزية مطعمة بالعبرية!

Exit mobile version