طلال سلمان

على الطريق نجاح الطائف ينتظر امتحان بيروت سلام بين مهزومين!

مبروك، هذه، أخيراً، خطوة أولى على طريق الألف ميل من الألغام والشوك والصعاب في اتجاه السلام الوطني في لبنانز
مبروك… بكل الملاحظات على النص والأداء ، مع الإخراج ومستوى الممثلين. فهي تبقى لحظة فرح مشتهاة بعد عمر الأحزان اليعقوبية. إذن فليست الحرب الأهلية قدرنا الأبدي وقدر أجيالنا الآتية، وليس الحل مستحيلاً اليوم وغداً وإلى دهر الداهرين!
مبروك للطائف، ومن الطائف التي تكاد تخرج على الوقار الملكي ابتهاجاً بما تم فيها، متوكلة من أجل الإنجاز، وفي بيروت، على بركة الله ومعها بركات بعض عباده الصالحين من أولياء الأمر في عواصم القرار.
ربما لهذا، وبحكمة التجارب السابقة وذكريات الملاجئ المفتوحة بعد، يرجئ اللبنانيون المغتبطون بالنتائج الطيبة لمؤتمر البرلمانيين، تبادل التهاني في انتظار العودة إلى بيروت وما سيكون في بيروت.
… ومبروك للجنة العربية الثلاثية هذا النجاح الجديد، وفي السياسة هذه المرة، بعد الأمن، وفي النجاحين معاً ما يؤهلها أكثر للقيام بالمهمة المستحيلة التي أنيطت بها.
مبروك: لم تفشل الطائف ولم يسقط مؤتمر البرلمانيين اللبنانيين فيها، ولم تذهب الجهود المضنية للجنة العربية إدراج الرياح… رياح التطرف والمزايدة والجهل بقراءة اللحظة السياسية، بكل معطياتها الفعلية محلياً وعربياً وفي العالم.
مبروك سلام المهزومين.
مبروك على الجميع، فلكل مهزوم، حاضراً كان أم غائبا،ً فيه نصيب.
لم تنتصر طائفة على أخرى بالضربة القاضية، ولا تهاوى الطائفيون صرعى هزيمة ساحقة لن تقوم لهم بعدها قائمة.
كل طائفة نالت من الهزيمة بقدر طموحها إلى تحقيق نصر مستحيل، وكل طائفي حمى من “مكاسبه” تلك النسبة الضرورية التي تبقيه “في مجلس الإدارة”. لا دولة له، إذا ما انفرد، لكنه في “الدولة” وله منها نصيب، فلا فضل لطائفي على طائفي إلا بطبيعة التحالفات ومدى صدق ود الحليف.
أجل، هو سلام “المهزومين”،
ولكن من تراه “المنتصر” لكي “يعاير” الباقين ويعيب عليهم هذا الاقرار الشجاع بالحقيقة التي كان غيابها يطيل أمد الحرب وعمر المنتفعين بها!
لا أحد يستطيع أن يدعي إنه “المنتصر”، أمس واليوم وغداً. فكل “منهم” ذاق طعم “نصر” مؤقت ومكلف ومستحيلة حمايته ومستحيل تثميره وسحب نتائجه المحدودة على الواقع.
وكل “منهم” قد تجرع الهزيمة مراراً، فمنهم من قضى نحبه (أو قضى غرضه) ومنهم من استوعب الدرس فقنع من الغنيمة بالبقاء على قيد الحياة ورفع التماساً باحتسابه بين المهزومين لكي يحفظ حقه في مقعد من مقاعد قطار التسوية.
هو سلام المهزومين.
مهزومون في الداخل، وداخل الداخل، ومهزومون في الخارج، والإقرار بالهزيمة شرط للسلام!
والهزيمة مشاع متاح للجميع، ولكل مهزوم نصيب: لا التوحيدي استطاع إحراز نصر على التقسيمي، ولا فكرة الدولة غلبت الطائفيين. وبالمقابل فإن المذهبي هزم لحساب الطائفي، لكن الوطني هزم لحساب الاثنين معاً. لا الاقطاع السياسي انتهى، ولا هو يملك بعد من العافية ما يمكنه من تجديد شبابه، ولا الطائفي بقادر على حصر ارث “سلفه الصالح” به، ولا الوطني مؤهل لأن يلغي – ببرنامجه التغييري – أبناء الأمس الذي ترفض شمسه أن تغيب.
من هو المتبجج بنصر لم يقع؟!
المهزوم في بيئته، في منطقته، في طائفته، وكذلك في الطوائف الأخرى؟
صحيح إنها لم تسحقه تماماً، وإن فيه بعد بعض الرمق، مما يتيح له المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، ولكن واحداً منهم لا يستطيع الادعاء إنه انتصر على طائفته وعلى الطائفية في ذاته.
لا المدافع عوضت النقص في فهم حقائق الحياة، ولا الطموح إلى التغيير استطاع، في ظل المدافع، أن يحقق أي تقدم. لقد هزمت المدافع، ولكن لم تنتصر الأفكار، هزمت الميليشيات لكن نصر المواطن ما زال في مستوى الأحلام.
هو سلام المهزومين.
لكنه السلام الممكن.
وهي تسوية طائفية، هذه التي تمت في مؤتمر البرلمانيين في الطائف، لأنها التسوية الممكنة، وقاعدتها إقرار الأطراف جميعاً بأنهم مهزومون، لكنهم في الهزيمة “متساوون”… فالهزيمة أكثر عدلاً من الصيغة الفريدة للنظام الخالد في لبنان.
هي فرصة لتحقيق “عدالة” ما بين اللبنانيين، لكي يكونوا مرة سواء!
لقد استنفدت الحرب أغراضها. حققت ما كان مطلوباً منها وبالثمن، ولم يعد أي من الأسياد بحاجة إليها، على الأقل بالحجم الخطير الذي بلغته في الشهور الأخيرة. لكن أحداً منهم ليس معنياً بإخماد نارها كلياً، ولا يهمه كيف يكون لبنان بعدها. المهم أن يكون وأن يبقى.
من يستطيع الادعاء بأنه ما زال الابن المدلل لأي من أولئك الأسياد؟!
أو من يستطيع الادعاء بأن “الأسياد” معنيون “بحقوق” طائفته، أو بمصير “منطقته” أو وعلى وجه الخصوص بصورة لبنان المستقبل وصورة الحكم فيه؟
لحظة ولادة استقلال الدولة كتب الزميل الراحل جورج نقاش أن سلبيتين لا تصنعان أمة،
فلا يكفي أن يرفض المسلمون اللبنانيون الوحدة مع سوريا وأن يرفض المسيحيون حماية فرنسا لكي تقوم دولة لبنان،
لكن اللبنانيين، اليوم، وبعد ست وأربعين سنة من الاستقلال، يبدون وكأنهم هم المرفوضون.
هو سلام بين مهزومين، وإن تعددت بهم الطرقات من الطائف وإليها.
اللبنانيون، على اختلاف “أنواعهم” و”أمرائهم” مهزومون، بغض النظر عن الادعاء.
وسائر العرب، وفي مختلف أقطارهم، مهزومون،
ومن ساواك بنفسه مهزوماً فما ظلم، ومن أشركك في هزيمته فما ظلم!
النصر ممنوع، ويكاد يصل في حالة العرب إلى حد “الحرام”،
لا الخيانة، في ظل الهزيمة، شر كلها، ولا الوطنية خير كلها. لا التعامل مع إسرائيل شر مطلق، ولا مقاومتها بالسلاح خير مطلق. مثل هذه الشعارات تطرف، والتطرف ينسف احتمالات التسوية والتسوية “انتصار” يتيم في زمن القحط واليباس واليباب والأرض المحروقة.. فمن يتحمل مسؤولية إجهاض هذه “الجائزة” البائسة تمنح لمن اعترف بهزيمته من “أمراء الحرب” الشجعان؟!
هو سلام بين مهزومين في الطائف،
وهو سلام بين مهزومين في بيروت، إذا ما تم التوصل إليه تتويجاً لما تم في الطائف.
فالمؤتمرون هنا ممن لم يقاتلوا أبداً يستشعرون في أنفسهم قوة مستمدة من سقوط ادعاءات “الأقوياء” و”الجنرالات” و”امراء الحرب” في بيروت.
إنهم مهزومون مقرون بهزيمتهم، وهذا مصدر قوة، لاسيما في وجه أولئك المهزومين الآخرين ممن لم يعرفوا أو لم يعرّفوا بعد إنهم هزموا، أو خاصة في وجه أولئك المكابرين الرافضصين الاعتراف بهزيمتهم المدوية.
ما كتب قد كتب، و”النصر” قد خرج ولم يعد في انتظار أن يولد من الرجال من يقدر على إنجاز مثل هذا الأمر العظيم.
فالشهداء مهزومون، والأحياء مهزومون.
المهاجرون مهزومون والمهجرون مهزومون، ونعمة الهزيمة تشمل أيضاً أولئك الذين – بالمصادفة – بقوا في لبنان، أو بقيت لهم بيوت. فليس الصمود أن تعجز عن نيل تاشيرة هجرة، وليست الحياة هبة من قذيفة ضلت طريقها أو أخطأ راميها في الحساب!
“الهزيمة” بالسوية عدل في الرعية..
كل الطوائف مهزومة، بهذه النسبة أو تلك، وكل الطائفيين مهزومون ولو استمروا أمراء، لهم الوزارة والنيابة والإدارة والشركات المساهمة والحسابات السرية.
لكن المواطن لم ينتصر بعد،
وهو قد “ربح” نوعاً من الاعتراف به قطعاً، فكلما “توافقت” الطوائف ازدادت حصة المواطن من الهواء والشمس، وكلما عنف الاقتتال بينها أو الاقتتال داخل كل منها، حوصر في رزقه وحرياته وكرامته وحياته حتى كاد يندثر. يصير انكشارياً في الميليشيا أو عدوا مبيناً للطائفة – الأمة التي هي فوق الجميع!
وبين مكاسب هذا المواطن، الآن، إن البديهيات قد انتصرت، مرة ، على تلك الحرب التي دمرت، أول ما دمرت، البديهيات والثوابت من حقائق التاريخ والجغرافيا وأسباب الحياة.
فكلما ترسخت بديهية، وكلما استقرت حقيقة من حقائق الحياة، واساساً التاريخ والجغرافيا، استشعر المواطن شيئاً من القوة لأن ذلك يمنح أرضاً صلبة يقف عليها وهو يطالب بحقوق الإنسان: إنه، إذن، إنسان – مواطن من بلد معين بالذات، له هوية محددة، وله أرض بحدود تنتهي بالبحر ولا تمتد عبره لتجعل كندا امتداداً لبكفيا وأوستراليا امتداداً لجورة الترمس والفيلبين امتداداً لخربة قنافار وفي جوارها “عميق” التي كان لها في الطائف شأن كبير.
مبروك: لم يهزم أحد بالمطلق، ولم ينتصر أحد من المهزومين بالمطلق على مهزوم آخر، فلا أحد يستطيع التباهي بنصر لم ينله على آخرمُني بهزيمة لا يستحقها.
مبروك… ففي اليوم الخامس بعد التسعين والثلاثماية للبنان بلا رئيس للجمهورية ينفتح الباب، وبأيد عربية، لقيام “العهد الجديد” في الجمهورية المتهالكة، ولانتخاب رئيس جديد لمرحلة “هزيمة الجميع”!
والهزيمة المطلقة، واعتباراً من هذه اللحظة، قرار شخصي، من أرادها ذهب إليها (وإلى الحرب) بقدميه شاكي السلاح، ومن رغب في تجنبها فله في “التسوية” مقعد محفوظ لا يشغله إلا “المسالمون”.
ومبروك: لم تنتصرالحرب، كرة أخرى، على شوق اللبنانيين العظيم إلى نورالشمس وعطر الوردة، إلى الهواء الطلق وأريج الفكرة البكر المتفجرة شعراً أو سطوراً في كتاب، إلى الأغنية وكركرات ضحك الأطفال، إلى همس العشاق في الاماسي الموردة الشفق بنجيع النهار وهو يستودع البحر سر الفجر الجديد.
مبروك… في انتظار بيروت.
بيروت التي تنتصر بانتهاء الحرب وانطفاء “أمرائها” و”جنرالاتها”، وبالذات منهم ذلك الذي حاول أن يمحوها بمدافعه فبقيت لتشهد رحيله، كما أمثاله ممن سبقوه، ومن بعد الرحيل ستغسل وجهها برحيق الشهادة وسرتشق خلف أذنها وردة وسترفع قامتها منارة لأهلها العرب وللعالم.
ففي بيروت يكون النصر.
بل: بيروت هي النصر وهي المنتصرون!

Exit mobile version