طلال سلمان

على الطريق نثر قلبه على القتلة!

سيمضي وقت طويل قبل أن يتمكن اللبنانيون من التغلب على حالة الذهول التي غرقوا في لجتها منذ لحظة سماعهم نبأ الكارثة القومية، صبيحة الأمس، الأول من حزيران 1987…
فمع إعلان استشهاد رشيد كرامي طغى على الشعور بالحزن العميق والأسى وفداحة المصاب، إحساس عام بأن “الجمهورية اللبنانيةط قد ترملت، وبأن أمل مواطنيها في الحل – التسوية قد سقط مضرجاً بدمه على أرض المدرج المغتصب في “حالات حتفا” الذي جاء تدشينه بجثمان رجل الدولة والحل مأتماً وطنياً عاماً لأحلام اللبنانيين في الأمان والسلامة والسلام فوق أرضهم المحررة.
واللبنانيون على يقين، الآن، من أن لبنانهم القديم لن يعود،
ثم إنهم يخافون مجرد تصور “لبنان جديد” بلا رشيد كرامي، لكأنما كان هذا الرجل الصلب في هدوئه المستفز الضمانة الأخيرة لاستمرار الدولة والشعار الأثير: وحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
وحدث الاغتيال الذي شهدته وشهدت عليه سماء لبنان يوم أمس غني بالرموز والدلالات إلى حد لا يصدق، حتى ليكاد يلخص ويجسم نتائج الزلزال الذي عصف بلبنان قبل خمس سنوات تماماً، والذي يراد له أن يكون بداية تاريخ جديدة للبنان، غير الذي كان، وغير الذي يريده اللبنانيون وسائر العرب.
فالتوقيت إسرائيلي تماماً، إذ يأتي عشية الذكرى العشرين للهزيمة العربية الشاملة في 5 حزيران 1967، وعشية الذكرى الخامسة للاجتياح الإسرائيلي للبنان في 4-6 حزيران 1982، وكإعلان عن هجوم إسرائيل شامل على الحل العربي للأزمة اللبنانية، بما في ذلك الوجود الفلسطيني – مسلحاً أو غير مسلح – على الأرض اللبنانية.
أما مكان تنفيذ الجريمة فيقع تماماً على “الحد الفاصل” بين دولة الوحدة الوطنية والمشروع التقسيمي الذي ترعاه وتعمل لإدامته القوى السياسية المتحالفة علناً مع العدو الإسرائيلي، والتي وصلت مرة بدباباته إلى قمة السلطة، وتخطط الآن للوصول مرة ثانية إلى ذلك “الأوج” بالدبابات ذاتها، ولو مستعارة وملطخة بدماء شعبنا في جبل عامل وسائر أنحاء لبنان.
وبهذا المعنى فإن المكان يفضح الأداة ويفضح طبيعة التواطؤ وأطرافه جميعاً.
فمن قاعدة أدما العسكرية، قرب المعاملتين، إلى سماء البترون، إلى مطار حالات، تهيمن قوة سياسية – عسكرية محددة، وتفرض منطقها وقوانينها على المؤسسات والأشخاص جميعاً، بالقهر أو بالضغط أو بالاستمالة أو بإجبارهم على التخلي عن مسؤولياتهم والهرب من الحرج إلى الإهمال والتسيب القاتل،
من هنا إن اللبنانيين استشعروا بالخطر، أمس، ربما أكثر مما استشعروه في أي يوم، لأنهم اشتبهوا بوجود قدر من التواطؤ بين بعض المؤسسات الشرعية التي ائتمنها رشيد كرامي على حياته، وبين بعض القوى المجسمة لمدى النجاح الإسرائيلي، في اختراق النسيج الاجتماعي اللبناني.. وهو تواطؤ لن ينفع في كشفه وتحديد أطرافه، ناهيك بمحاسبتهم، كل هذا الحشد من لجان التحقيق القضائية والعسكرية والفنية التي تعود الناس أن تكون وسيلة لطي الملف ومقبرة للحقائق والوقائع أكثر منها منبراً للعدالة وإحقاق الحق.
فاللبنانيون خمنوا وقدروا وعرفوا بالحدس وبالاستنتاج أسماء القتلة، وفيهم المخطط والأداة المنفذة، ولكنهم لن يعرفوا باليقين أبداً هذه الأسماء، أو غيرها، وستقيد الدعوى ضد مجهول وتدفن في الملف الحاشد لجرائم الحرب الأهلية المفتوحة منذ سنوات طوال وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
واللبنانيون مع وعيهم بحراجة موقف الحكم وموقعه لن يغفروا له إنه تستر على الجناة، إذ أنهم لن يصدقوا إنه لا يعرفهم.. فهذه، بالضبط، كما وصفها في محادثاته الهائفية الأخيرة مع الرئيس المغدور: حرب التقسيميين على التوحيديين!.. وماذا يتبقى من الوحدة إذا كان التقسيميون قادرين على تجاوز الجيش ليطالوا الرمز الأهم للوحدة ودولتها، ثم يمضون بهدوء لإصدار بيانات الشجب والإدانة والاستنكار والمشاركة في إضراب الحداد الوطني العام؟!
وإذا كان من المبكر جداً حصر النتائج المريعة لاغتيال رجل الدولة، والحل، رشيد كرامي، فمن الممكن الإشارة إلى أبرز هذه النتائج كما تجلت أمس للبنانيين فأغرقتهم في هم القلق الممض على المصير، ومنها:
1 – إن جريمة الاغتيال وقعت في لحظة كادت القوى السياسية المتنازعة تتوافق على هدنة كانت مرشحة لأن تمتد حتى موعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية في صيف العام المقبل (1988، وبالتالي فقد اغتيل – مبدئياً – مشروع هذه الهدنة، واغتيلت معه معظم احتمالات التوافق على رئيس جديد يمكنه أن يشكل بشخصه كما ببرنامجه المدخل إلى الحل العتيد للأزمة اللبنانية.
2 – إن الجريمة التي وصفتها بعض أجهزة الأعلام الخاصة بأنها “ثاني اغتيال سياسي بعد بشير الجميل” تبدو كأنها الرد الإسرائيلي على إسقاط مشروع الحل الإسرائيلي في ظل حصار بيروت صيف العام 1982، عبر انتخاب بشر الجميل رئيساً للجمهورية.
وتصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين واضحة في التعبير عن إن رشيد كرامي قد استهدف بوصفه رجل الحل العربي (السوري تحديداً) في لبنان.
3 – بهذا المعنى فإن إسرائيل التي ما تزال تحتل بعض الجنوب تبدو وكأنها تتقدم شمالاً، وتطارد احتمالات الحل مستعينة بالقوى اللبنانية المتضررة من الحل، ومسخرة اختراقها للنسيج الاجتماعي اللبناني لإخفاء دورها المباشر في الجريمة، والعمل بالتالي على تجديد الحرب الأهلية وإدامتها إلى ما شاء الله.
4 – إن اغتيال رشيد كرامي، الرجل الذي رفض باستمرار، وعبر الأزمات السياسية جميعاً، في 1958 كما في 1975، كما في أعقاب 1982، أن يحمل السلاح أو أن ينشء ميليشيا مسلحة، يأتي ليخدم حملة السلاح في الجانبين.
فإذا كان نصيب المعتدل، المحاور، المصر على التمسك بقوانين الصراع السياسي، القتل نسفاً في الجو، فلماذا إذن لا يتطرف الجميع؟! ولماذا لا تسقط قوانين الصراح السياسي، أي الحوار والجدل والمقارعة بالحجة والفكرة والرأي والبرنامج؟!
إنها اللحظة المناسبة تماماً لتغليب التطرف والمتطرفين والتعصب والمتعصبين، بالمعنى الطائفي والمذهبي ، خصوصاً وهي تثبت – مرة أخرى – إن التطرف هو وحده طريق الوصول إلى قمة السلطة في بلد الحرب المفتوحة والمستوعبة لصراعات العالم أجمع؟!
5 – إن اغتيال رشيد كرامي قد كشف حقيقة أخرى موجعة وهي إن لبنان الآن يكاد يكون بلا مرجع أو مرجعية مؤهلة ومقبولة من مواطنيه جميعاً، أو من غالبيتهم.. فالضياع الذي شمل الناس أمس، والحيرة التي تملكتهم، والمساومات الرخيصة التي دارت من فوق رؤوسهم لتأمين استمرارية السلطة، كل ذلك قد أكد إن قيادات البلاد بمجملها دون مستوى المرحلة الدقيقة التي نعيش أخطارها غير المحدودة.
لقد كان رشيد كرامي الميت وهو مستقيل، أمس، أقوى من معظم الذين يتربعون على قمة السلطة ومعظم المتسلطين الذين يتحكمون بمصائر اللبنانيين بقوة السلاح.
هادئاً، كان، كعادته، يجلس إلى مقعده المعتاد، في الطائرة المعتادة، في الموعد المعتاد، ومقابله تماماً الرفيق المعتاد في الرحلة الأسبوعية الدكتور عبد الله الراسي، وفي المقاعد الأخرى الركاب المعتادون.
وحين دوى الانفجار المهيب والتفتوا إليه ظنوا إنه، لفرط هدوئه، إنما يتلو آية الكرسي، كعادته كلما تهدده خطر..
لم تصلهم صرخة الألم، لكن نثار الرئة الممزقة وصلهم بالتأكيد، أما نثار القلب الكبير فقد تطاير عبر الباب المخلوع بقوة الانفجار فتهاطل فوق البحر، فوق الشواطئ الذي طالما ارتادها وأحبها، في طرابلس، في القلمون، في انفة، في شكا، في الهري، حتى رأس الشقعة، ثم بعده في البترون وجبيل وجونيه وصولاً إلى بيروت، بل إلى صور ورأس الناقورة،
لقد نثر الرجل الكبير قلبه على لبنان واللبنانيين جميعاً، بمن فيهم القتلة،
وتبقى كلمة أخيرة لا بد من توجيهها إلى الرئيس سليم الحص:
كلنا يدرك ويقدر مشاعر حزنك النبيل، وإحساسك العميق بابتعاد الحل وتضاؤل الأمل فيه، لكننا نعرفك رجل مسؤولية ورجل سلاح الموقف،
والموقف الصح الآن أن تسمو على حزنك وعلى تخوفك من أن تكون فرصة الحل قد قضت مع الرئيس الشهيد، وأن تحمل الراية وتتقدم الصفوف وتقتحم اليأس لاستيلاد أمل جديد، فلا بد مما ليس منه بد. لا بد من المواجهة. لا بد من القتال من أجل السلام. لا بد من إعلان الحرب على الحرب، التي غدت مفضوحة في أهدافها الإسرائيلية. لا بد من إعلان الحرب على أهل الحرب وهم يحتلون الآن بعض الأرض وبعض الإرادة.
ذلك هو الثأر الحقيقي لدم رشيد كرامي ولآلاف الشهداء الذين سقطوا فرووا بدمائهم هذه الأرض العربية، وصار واجبنا أن نستنقذها ونستنقذ أهلها وتضحيات الشهداء.
علينا أن نحمي فكرة الدولة التي صارت الآن حلماً، ليمكننا بعد ذلك أن نعود فنحلم بمشروع الوطن.
وعليك شخصياً أن تقود المسيرة لحماية ما تبقى من الدولة ومنا.
والعزاء في أن نحمي موقف رشيد كرامي،
فليكن سلاحك دمه،
وليكن هدفنا أن نحمي الحل، أن نحمل الدولة، أن نحمي عروبة لبنان، أن نهزم المشروع الإسرائيلي.
إنه امتحاننا جميعاً، ولا مجال للفشل أو للتردد.. من أجلنا جميعاً، ومن أجل رشيد كرامي الذي أعطانا آخر قطرة من دمه وهو يبشر بالسلام. فأقدم، والكل معك، مع لبنان المرتجى والوعد والأمل.

Exit mobile version