طلال سلمان

على الطريق ناصر يرشقهم باسمه!

هادئاً كالحق، وهو صاحبه، راسخاً كإرادة الحياة، وهو ابنها البكر ، قوياً كالعدالة وهو عاشقها وسيفها، هادراً كنهر الأردن، وهو مالك مياهه المقدسة والضفتين والهواء والسماء والأرض كلها والبرتقال الحزين وشميم زهرة العطر، مشى ناصر إبراهيم عبد العزيز إلى مواجهة ذئاب الليل التي نهشت وانتهكت هذه المقدسات جميعاً.
قرب “المحولة” ميز أشباحهم السوداء فامتشق دمه ورشقهم باسمه ثم بصورة حبيبته ثم بكمشة تراب من إربد التي أنجبته.
وحين أكمل المهمة سجد فقبل الشعب المندى بنجيعه الحار وغمز نجمة كانت تسدد خطاه والمرمى، وتوسد الأرض وأخذ يغوص فيها عميقاً عميقاً حتى ذات فيها تماماً، وصوت رصاصهم والذعر وقعقعة الدبابات تصل إلى أذنيه زغاريد فرح وبشارة بنصرة الصغير – الكبير!
لقد زف نفسه بنفسه إلى عروسه التي ولا أحلى ولا أبهى ولا أبقى.. سألها: أتقبلينني؟! فاحتضنته وتركته يتوغل في مسامها ويسري في شرايينها كما النسغ، ويطل من عينيها الواسعتين بنفسجة حانية الطيب والنظرة، صادقة الوعد والموعد.
… ومن “أكياد” في محافظة الشرقية بمصر التي كانت كنانة الله في أرضه، إلى إربد في شرق الأردن الذي كان جزءاً من “شام الله في ملكه”، تواصل الحوار بين سليمان خاطر وناصر إبراهيم عبد العزيز ، وعبر المحطات الكثيرة في جنوب لبنان الذي اجتاحه عبق الشهادة فحول كل فتى فيه إلى “شهيد حي” في انتظار اللحظة المرتجاة.
ففي كل مكان على امتداد هذه الأرض المجرحة الكرامة والمكلومة إرادة بنيها، تنبثق من قلب الرماد حقول الورود الحمراء علاماتعلى الطريق تهتف بكل واحد منها: أن تقدم فليس ثمة الاك، أنت أنت المحرر، أنت أنت البطل، أنت أنت الفجر الجديد، أنت أنت القائد والقيادة، الشاهد والشهيد والشهادة، أنت أنت المريد والإرادة، تقدم فليس إلى الخلف إلا الهزيمة، وليس إلى الأمام إلا النصر للقادر على دفع ضريبة النصر.
ناصر إبراهيم عبد العزيز:
اسم فتى بالكاد بلغ العشرين ربيعاً من إربد في الأردن. نسياً منسياً كان، كأي منا، نحن المائتي مليوناً من عرب زمن الردة والتردي.
لكنه تركنا، نأكل ونشرب وننام ونتناسل ثم نقوم فنذهب لنغرق في التفاهات النهارية قبل أن نعود لننام من جديد… تركنا ومشى. خلع بزة انتسابه إلى النظام والهزيمة، حمل بندقيته ومشى. وصل إلى النهر فشرب واغتسل متطهراً مما علق بجسمه وذهنه وعقله من أدرانوأوبئة ووصايا التعقل وضرورة الابتعاد عن التطرف والجنون، ثم عبر النهر وأكمل مشواره إلى حيث “التقاهم” وكانوا جميعاً هناك : الملوك، السلاطين، الأمراء، المشايخ، الجنرالات المزينة صدورهم بأوسمة المجاملة والزيارات الودية، القادة والرؤساء الذين ورثوا السادات فحاولوا عبثاً إكمال ما بدأه… وببساطة شديدة، وعلى طريقة نزيه قبرصلي وبلاد فحص وحسن قصير وسناء محيدلي وسليمان خاطر أخذ يطلق الرصاص ويطلق حتى يموت الجميع، ورآهم يتهاوون واحداً واحداً، فلما اطمأن انغرس شجرة أصلها في الأرض وفرها في السماء.
ناصر إبراهيم عبد العزيز،
تعجل ربيعه الحادي والعشرين فمشى إليه بدمه،
إلى الخلف، كان “الملك” و”القائد العام” مستغرقين في مناقشة أمور التفاوض والتنازلات المطلوبة من أجل التسوية على قاعدة الأرض العربية مقابل السلام الإسرائيلي.
ولم يكن يعنيه أن يعرف هل اتفق “سيدنا” مع “الختيار” أم أنهما اقتربا من الاتفاق، وهل تطابقت وجهات النظر أم لا تزال بحاجة إلى مزيد من الاتصالات المكثفة ، ومن المشاورات والمباحثات المباشرة أو غير المباشرة، وعبر مورفي أو ملك اليونان المخلوع، مع شيمون بيريز وسائر الغاصبين،
كان يعرف أشياء أخرى مغايرة تماماً، بينها إن الأرض أغلى من التاج، بل إن كثيراً من التيجان قد دفع ثمنها من أرضنا ومن حقنا في يوم أفضل وغد أفضل، وإن السلام الحقيقي تصنعه بندقية المقاتل من أجل التحرير وليس براعة المفاوض في إخفاء حجم تفريطه بما يحرم الله وعباده التفريط فيه.
ناصر إبراهيم عبد العزيز،
وردة جديدة تنبثق في صحراء الرماد التي نكاد نتوه فيها ونضيع وننسى أسماء أبنائنا وتاريخ أهلنا الذين يشكلون أديمها المقدس.
وبعد وردة أكياد، والوردة التونسية التي وئدت وأغفل حتى اسمها، هذه وردة تشق جدار الصمت في الأردن لتقول إن إرادة الحياة هي الأقوى والأبقى، وإن عشق الأرض لا تقمعه الدبابات ولا المخابرات مهما تعاظمت، خبراتها المدمرة.
وبالنسبة إلينا في بيروت المحاصرة والمعلقة على صليب آلامها في انتظار الخلاص، فإن ناصر إبراهيم عبد العزيز كان أشبه بطوق نجاة، أعطانا فرصة تنفس، خارج المستنقع الطائفي الآسن الذي حبسنا فيه الحاكم الكتائبي وكتائبيو الطوائف الأخرى.
وسنخرج من المستنقع.
وستزهر حقول الورود والياسمين والنرجس لتعود بيروت ما كانته أميرة عربية تنتظر خطيبها الأسمر الحامل إليها مهرها راية مرفوعة على سن رمحه من أجل التحرير وليس في حافظة نقوده السمينة!

Exit mobile version