طلال سلمان

على الطريق موقف موحد لمفاوضين مختلفين؟!

سافرت الوفود إلى واشنطن لمباشرة الجولة الحادية عشرة، لكن المفاوضات الفعلية لا تنتظر عودتهم، وهي لم تتوقف يوماً واحداً، لا في العواصم المعنية ولا في عاصمة الرعاية الأميركية.
ولقد تكرس “المساران” كحقيقة سياسية وليس فقط كأمر واقع.
اليوم يمكن أن يفهم بمزيد من الوضوح ذلك الإلحاح الأميركي على الفصل بين المسار الإسرائيلي – الفلسطيني، والمسار الآخر، السوري – الإسرائيلي، اللبناني – الإسرائيلي والأردني – الإسرائيلي.
كان الهدف ضرب وحدة الموضوع، وإسقاط الصراع من المرتبة القومية والشأن العربي العام إلى “أزمة محلية” أو نزاع على أرض يدعي ملكيتها أكثر من طرف.
مع مباشرة المفاوضات كان قد أسدل الستار على الصراع العربي – الإسرائيلي، فحورت طبيعته من “صراع وجود” بين العرب مجتمعين من ناحية وبين الإسرائيليين من ناحية أخرى، إلى خلاف على الحدود بين ثلاث من الدول العربية هي الأردن وسوريا ولبنان كأطراف وبين “دولة إسرائيل” كطرف،
أما ما بين “دولة إسرائيل” وبين الفلسطينيين فقد فصل تماماً عن أصل الموضوع واعتبر مشكلة داخلية إسرائيلية لا تخص أحداً من العرب في الخارج، ولا حتى من “الفلسطينيين” خارج حدود فلسطين – الانتداب،
وبغض النظر عن الصح والغلط فقد كان ذلك مطلب الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، ومعهم الأميركيون ومعظم دول العالم.
كان العرب قد خسروا وحدتهم السياسية قبل ذلك بزمن بعيد، وخسروا بعدها حتى التضامن على قاعدة موقف موحد،
ولم تكن المفاوضات مع الإسرائيلي هي الساحة المؤهلة لتحمل أثقال مهمة جليلة كاستعادة الوحدة السياسية لا عبر وفد عربي موحد، ولا حتى عبر وفود منفصلة تلتقي على أرض الموقف الموحد إن تحت راية المصلحة القومية أو تحت بند التنسيق، وهذا أضعف الإيمان.
وما جرى في بيروت قبل يومين خلال اجتماع وزراء خارجية الطوق كان – على غرابة وقعه – منطقياً: فالوفود خمسة، والمواقف أربعة، واللغة لغتان وإن ظل البيان واحداً حفظاً للشكل،
كان الفلسطيني بعيداً بهمومه وتطلعاته ومشروعاته عن جدول أعمال اللقاء الحسن الترتيب في فندق بريستول الكلاسيكي الأنيق في بيروت،
وكان الوفد الأردني المتربص بالفلسطينيين قلقاً خائفاً من نجاح محتمل يحققونه بعيداً عنه و”على حساب أمنه القومي” كما قال وزير الدولة للشؤون الخارجية لاأردنية علناً،
أما الوفد المصري فلكان أكثر ما يقلقه أن “ينزلق” الفلسطيني أو يستدرج فيفضح السر ويكشف اللعبة الثلاثية الجارية خلف المسرح (الفلسطينية – الإسرائيلية – المصرية) ودائماً تحت الرعاية الأميركية.
فالمصري يكاد يكون “إسرائيلي” الدور مع الفلسطيني، أميركياً مع العرب، ومصرياً جداً مع الأميركيين..
وكان حتمياً أن يجد السوريون واللبنانيون أنفسهم موحدين في خندق واحد أو في مأزق واحد أو ربما في موقف واحد يصبح أكثر قدرة على التأثير بقدر ما تتصلب وحدته حتى ليستحيل تفتيته بالعروض الوهمية والغوايات المكشوفة.
بائسة هي أوضاع الفلسطينيين،
وستظل الأحكام عليهم قاسية مهما راعت قسوة الظروف التي يعيشونها في الداخل والخارج،
لكن هامش المناورة أمام القيادة الفلسطينية واسع جداً: غنه بمدى استعدادها للتنازل، وهي تملك – بداية – الكثير مما يمكن التنازل عنه، وكله غال إلى حد القداسة، وحيوي جداً للإسرائيلي بحيث يصعب عليه رفضه ولو “بتنازل” مقابل عن ادعاءات أو خرافات أو “ممتلكات” يكاد يستحيل الدفاع عنها،
ثم إن الأميركي الحريص على تحقيق إنجاز مستعد لأن يتدخل في اللحظات الحرجة فيدفع ثمن “التنازلين” من كيس “ثالث” هو عربي أساسي مع إضافات يابانية وأوروبية.
ياسر عرفات يتصرف الآن على أنه “اللاعب الأول”،
فهو يعرف إن ما من عربي يمكن أن يوقع قبله، حتى لو عرض عليه أكثر مما يطلب “وطنياً” أو “قطرياً”،
ثم إنه يعرف أن جذور الموقف القومي في سوريا أعمق من أن يستطيع أن يهزها الإسرائيلي، أو أن يلتف من حولها لمحاصرة الفلسطيني والتضييق عليه،
فحافظ الأسد سيظل يحمي الفلسطيني ويدافع عن حقوقه مهما “هرب” منه، وتسلل من خلفه لعقد صفقته المنفردة… بل إنه سيتركه يفيد من موقفه الصلب إذا ما هو أراد تحسين شروط هذه الصفقة المرفوضة مبدئياً، فما يهتم له الأسد يتجاوز كل ما هو مطروح، وإن كان – بواقعيته – لا يمكن أن يغفل أو يتغاضى عن الممكن طلباً للمستحيل.
أما لبنان فقد كونه نيران التجارب طويلاً بحيث بات يدرك أن أقصر طريق لاستعادة حقه في أرضه المحتلة هو ربط موضوعه بالموضوع السوري والاستفادة من القيادة الكفوءة لحرب المفاوضات بكل ملابساتها الشائكة وتعقيداتها المتفجرة.
علام التفاوض، إذاًن طالما أن المواقف العربية متباعدة إلى هذا الحد، في ما بين المعنيين مباشرة وقبل التطرف إلى مواقف العرب الآخرين الذين كادوا يخرجون من عروبتهم وعليها حتى لا تضطرهم إلى الالتزام بالقضية القومية وبموجباتها السياسية والمادية؟!
ليس الموقف ميؤوساً منه، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى “الضفة الأخرى”، وهي هنا تشمل الإسرائيلي والأميركي.
فالإسرائيلي في أحسن حالاته، بمعزل عن قوته العسكرية الأسطورية التي لم تفده ولن تفيده في حسم مسائل سياسية شديدة التعقيد وضاربة في أعمق أعماق التاريخ الإنساني.
لقد افترض بداية أن مشكلته في “الخارج”، وإن مشكلاته في الداخل سهل حلها أو متيسر ببعض الدم والنار،
وقاتل الإسرائيلي وما زال يقاتل الخارج حتى ألغى احتمال الحرب كخيار عربي مفتوح (ولم يكن ذلك بقوته وحده وإنما بقوة الظروف والتحولات الدولية وانعكاساتها عربياً إضافة إلى “الكفاءة” العربية الذاتية)،
لكن الحرب التي توقفت في الخارج، أو تكاد، قد انتقلت إلى الداخل، وفي متنامية ومتمادية ولا أمل في وقفها بالحديد والنار والتهجير الجماعي،
وهي حرب أقسى في تكاليفها وفي نتائجها على “المجتمع الإسرائيلي” من “حرب الخارج” أو “الحرب على الخارج”، إذ أنها تهدده في مكوناته العملية كما في منطلقاته النظرية.
وبغير أوهام أو تمنيات وردية فإن المعطيات الواقعية تجبر الإسرائيلي على الاعتراف بفلسطيني ما، وبمشكلة معه خطيرة ولا تنتهي إلا بتسوية سياسية ستكون مؤهلة لتغيير طبيعة إسرائيل، على الأقل كما تخيلها الصهاينة الأوائل وكما عمل لها جيل الرواد من بناة هذه الدولة الاستعمارية الاستيطانية على قاعدة الخرافة التاريخة فوق أرض فلسطين.
إن زمن سقوط الأوهام العربية يترافق مع سقوط الخرافات التوراتية في إسرائيل،
والطرفان مجبران على دفع الثمن، لكن الفرق هو أن العرب يدفعونه من أرضهم ومن لحومهم ومن أحلام أطفالهم في مستقبل عربي أفضل، أما الإسرائيليون فيدفعونه من خرافة المشروع الإمبراطوري الذي توهموا ذات يوم أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه.
… ويبقى الطرف الأميركي، وهو المفاوض الأول والمفاوض الأخير،
واضح أن جميع الأطراف المعنية قد توصلت إلى استنتاج واقعي محدد مفاده أن إدارة كلينتون بحاجة ماسة إلى إنجاز ما تقدمه لتغطي مسلسل فشلها الذريع على المستوى الداخلي (الاقتصاد) كما على المستوى الخارجي (من الصومال إلى البوسنة التي تمثل ذروة الخيبة)…
بل لقد صدر عن الإدارة الأميركية ذاتها ما يشي باحتياجها الشديد إلى إنجاز سياسي يمكنها تسويقه، وبسرعة، وبالتحديد من خلال “التسوية السياسية لأزمة الشرق الأوسط أو الصراع العربي – الإسرائيلي”.
لقد تبدل جدول الأولويات الأميركي، وصار الشرق الأوسط البند الأول.
ومن حق كل طرف أن يحاول الآن “بيع” دوره في تحقيق هذا الإنجاز الحيوي لإدارة كلينتون بأغلى سعر يستطيع الحصول عليه،
والأقدار وحدها جعلت العرب في موقع قوة نسبي، خصوصاً وإنهم المطالبون بالتنازل عن حقوقهم فعلاً، بينما الإسرائيلي يتنازل عن بعض مكاسبه منهم أو بعض فائض الربح.
هذا لا يعني بأي حال أن ليس على العرب غير انتظار أن يأتيهم الأميركي بحقوقهم على صينية إسرائيلية من فضة،
ولكنه يعني أن الحد الأدنى من وحدة الموقف العربي كفيل باستنقاذ الحد الأدنى من الحقوق العربية، داخل فلسطين وخارج فلسطين.
فياسر عرفات لا يستطيع أن يأخذ لا من الأميركي ولا من الإسرائيلي إذا ما خرج من العرب وعليهم،
إنه يأخذ بقدر ما يكون منهم وإن اختلفت حيثيات الدعوى وليس جوهر الصراع.
وهو حين يأخذ سيأخذ لهم جميعاً، تماماً كما أنه حين يعطي سيعطي من حقوقهم جميعاً وليس من حقوقه الشخصية،
وهو بسوريا ومعها لبنان أقوى منه بمصر كامب ديفيد،
وهو بتوحيد قوى شعبه أقوى منه بحكم أردني سيظل ينازعه على ما سيعطى من فلسطين، متكئاً على قوته لدى الأميركي والإسرائيلي وهي قوة قد يكون لها الدور الحاسم في لحظة القرار، وليس مؤكداً أنها ستفضله على صديق قديم وموثوق كالملك حسين.
وهو بهؤلاء جميعاً أقوى منه بالقطع وهو يواجه منفرداً وضمن مناخات انقسام لن يتورع الإسرائيلي عن تغذيتها لتفجيرها حرباً أهلية لا تبقي ولا تذر، داخل فلسطين وخارجها،
وهين أن نضحي بمنظمة التحرير الفلسطينية من أجل فلسطين، أما أن نضحي بالمنظمة كإطار سياسي لوحدة الفلسطينيين، وبالتحرير كهدف نبيل وكشرط حياة، ثم بالعرب كحلفاء إن لم يكن كأشقاء، فإن ذلك كله لن يوصل لا إلى غزة ولا حتى إلى اريحا، كما أن الخروج من بيروت لم يوصل إلى القدس بل إلى تونس… على مشارف الأندلس!
وليس الفلسطيني وحده المسؤول،
بل إن كل العرب مسؤولون عن ضبط المسيرة واستهدافاتها في اللحظة الفاصلة،
والأعمق إحساساً بالتاريخ، والأعظم مسؤولية عن المستقبل هو موضع المطالبة، وليس الطامح إلى منصب الحاكم أو الرئيس في دولة تافهة تخرجه وقضيته من الجغرافيا كما من التاريخ، بينما الأبواب مشرعة أمامه لخيار عظيم مختلف.
وإذا لم يكن متيسراً أن يتحول “الشخص” إلى صلاح الدين الأيوبي، أو إلى عبد القادر الحسيني، أو حتى إلى الحاج أمين الحسيني، فلا أقل من أن يتجنب أن يكون أحمد حلمي باشا: رئيساً لحكومة عموم فلسطين، حيث لا حكومة ولا فلسطين ولا عامة أو عموم!

Exit mobile version