طلال سلمان

على الطريق مواجهة مع النفس

لنعترف إننا نخرج من تاريخنا الوهمي الذي اصطنعناه واستوطناه واعتبرناه البداية والنهاية، ونهم بالدخول إلى “التاريخ” الكلي في لحظة اصطناعه وفق معايير النظام العالمي الجديد.
لنعترف إننا نعاني آلام التمزق ونحن نواجه الدنيا بما كنا نداري أن تعرفه عنا، ونحاول دائماً أن نخفيه، مفترضين إن العالم لا يرى منا إلا ما نريه، ولا يسمع عنا إلا ما نقوله في أنفسنا، وينظر إلى عدونا بعيوننا وإلا كان منحازاً ومعادياً وحاقداً، في حين إننا نحن من أسقط من عدونا العداء حين كبرناه فجعلناه أقوى الأقوياء في الكون وصورناه أعظم من الأعظم وأقدر من الأقدر، بل هو مصدر عظمة أولئك وقدرة هؤلاءز
لنعترف إننا لم ننظر إلى عدونا مرة في عينيه ،
ولنعترف أيضا إننا لم ننظر إلى أنفسنا مرة بعيون صحيحة: كنا نبالغ حيناً في تقدير قوتنا ووزننا وكفاءتنا بحيث نخرج من الحقيقة إلى الخرافة، وحيناً آخر كنا نحقر أنفسنا ونأكل الهتنا وننكر تاريخنا ونرفض انتماءنا وننبش قبور أجدادنا فننتهي إلى العدمية والتهجن وانعدام الوزن والتبعية المطلقة للعدو الذي لم يتغير ولم يغير نظرته إلينا ولا منحنا “المزيد” من احترامه.
لا تصمد الخرافة للسيف، ولا تعفي التفاهة من الاحتقار والسحق،
لا يخرج السيف من القصيدة ليفتك بالعدو الجبان، بغير ما حاجة إلى زند الفارس، ولا يستتبع إنكار الانتماء العفو وضم الخارجي إلى الحضارة المضادة لمجرد إنه كاره نفسه.
تسقط منك ذاكرتك فلا تلتفت لتلمها، بل تتسارع خطواتك هارباً منها ومما تختزنه مما لا يليق بك أن تحمله أو تعرّف به في الزمن المختلف.
… وتتطاير صفحات ما كانت تعتبره تاريخك، وتضفي عليه طابع القداسة، فلا يعنيك أين تقع، وكم عددها، وماذا كتب فيها مما بات ممنوعاً أو منافياً للواقع أو مجافياً للقانون السائد ومحظوراً تداوله تحت طائلة العقاب.
تتبدل ملامح أمك، يغيب عنك أسماء أبنائك، تنسى تفاصيل مسقط رأسك، حتى ليتفجر التساؤل مشروعاً في داخلك: هل أنت أنت؟! وإذا ما تناثرت نتفك مع الريح الجديدة فماذا يتبقى منك، وهل أنت – حقاً – تلك النتف المتبقية بغير كيان أو هوية؟!
هل أنت في مدريد أنت في بيروت، في دمشق، في القدس، في عمان، في القاهرة وحتى رباط الخيل في المغرب الأقصى ومنطلق الرسالة والفاتحين في الحجاز ونجد واليمن السعيد؟!
من منك الذاهب على مدريد ومؤتمرها، ومن منك المعتكف والمستنكف والمتعفف بينما الهواء مشبع بالعطن والعفونة والرفض اللفظي كسيح، ومجد الموقف معتثصم بالمطلق حتى لا يغطس في مستنقع الجمل الثورية التي هاجرت معانيها إلى أبعد مما تطال الألسنة المتفرغة لغرغرة الكلام المجوف حتى من الصدى.
لنعترف إننا خائفون، نرتعد فرقاً مما نحن مقبلون عليه مما لم نألفه ولم نستعد أو نعدًّ له فعلاًز
لنعترف إننا نفتقد شجاعة المفاوض، لأننا مسحوقون بدونية المهزوم في السلم أكثر مما في الحرب، لأننا بتنا مسلمين إن الهزيمة تأتينا من الداخل فتمكن منا الخارج وتجعلنا نتهاوى وتختلط علينا الأمور بين القهرين فنخسر الحربين وينتصر علينا طرفا القتال الذي نبقى فيه دائماً مجرد ضحايا.
لنعترف إننا لم نتعود على هذا النوع من المواجهة.
بل لعلنا لم نتعرف إلى أسلوب المواجهة، سواء في الداخل أ في الخارج.
كنا نواجه “غيابياً”. في السياسة، في الثقافة، في الفن، في الأدب وفي العلاقة مع الآخر، أي آخر.
كنا نكتفي بالشكل. نهتم بأن نخدع الآخر بالشكل. نلبس لبوس الحرب ولا نذهب إليها. نلمع السلاح ولا نستخدمه. نعلف الخيل ولا نمتطيها فتفسدها الراحة.
حتى مع العدو كنا نحكم على الشكل ولا نتوغل في تلافيف حقائقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتكويناته السياسية المعبرة عن هذه الحقائق والمسيرة لصراعها المحتوم مع وقائع حياتنا التي لم تبلغ مرتبة الحقائق الثابتة ولم تبلور منطقها الخاص في المواجهة.
هل تصمد التسميات التي أعطيناها لمجريات الأمور لأي تدقيق نزيه؟! كنا نهيل الرمال على نجيعنا، حتى يسهل علينا إنكار إننا الضحايا،
وكأن عدونا يشهر دماءنا في وجهنا ليظهرنا كجناة مختلساً منا موقع الضحية.
كنا نطلق سهامنا في الهواء، ونجرد سيوفاً وهمية ليست حتى من خشب، ونبارز أشباحاً تصطنعها أوهامنا فنصرعها ونرفع أصابعنا بإشارة النصر،
أما عدونا فكان ينتظر أن يضجر العالم من ادعاءاتنا السمجة ومن هذرنا السخيف حول مسؤوليته عن تقصيرنا وعجزنا وانصياعنا لأنظمة القهر ولنظام التخلف التي تخرجنا من العصر وتمنعنا من دخول التاريخ، فإذا ما قدر إن ذلك قد تم اجتاحنا بغير عناء وحظي بالتصفيق والتهليل لداوود الذي صرع جوليات العملاق، كرة أخرى.
كيف تكون حرب بلا محاربين، وكيف يكون نصر في معركة تنتهي قبل أن ندخلها؟!
وطالما لم يأتي النصر، فلا بد أن يأتي “السلام” ناقصاً وأعرج وأشوه ويحمل ملامح عدونا وشروطه.
ومن قبل جاءت إلينا مدريد على سن الرمح، واليوم نذهب إليها مدفوعين بسن رمح المنتصرين علينا.
وسلام مدريد مر لأن الهزيمة التي ولدته مرة.
لطالما تفرجنا على الحرب، وها نحن الآن نتفرج على “السلام”.
دائماً في مواقع المتفرجين، فمن أين يأتي النصر والسلام العادل، سلام الشجعان، سلام من تواجها فتكافأ فاعترف كل منهما بالآخر واستحق كلاهما أن يشارك نده صنع التاريخ الجديد لعالم ما بعد الكراهية والحقد وعداء المتنازعين حق الحياة؟!
مرة أخرى، يتدافع “الجمهور” ليحتشد داخل الشاشات الصغيرة فيتفرج على مصيره وهو يرسم بقرارات من غيره، وإن أبقي له بعض الدور، استيفاء للشكل وضماناً للنهاية السعيدة.
لكأن مدريد الحلقة التالية المكملة، أو الخاتمة، للمسلسل المثير: عاصفة الصحراء.
لكأنها النتيجة والجائزة.
البطل هو هو، بالوجه ذي الملامح الصارمة والمرسومة بالمسطرة، والكلمات التي تفيض بالعنو والزهو والاطمئنان إلى غياب القادر على النقض أو الاعتراض أو الشغب الجدي لإفشال ما قد تقرر.
والمذيعون والمذيعات والمراسلون المنتشرون في أربع رياح الأرض، ممن عاشوا “معنا” لفترة طويلة وعصيبة، فصاروا في موقع الجار أو أعز!! ونشأت بيننا وبينهم علاقات “عاطفية”، يغلب على الإعجاب والانبهار فيها طابع الحقد والكراهية… حتى إذا جاءت النهاية توارينا عن أنظارهم خجلاً وانسحاقاً تحت وطأة الهوان والضعة وافتقاد الجدارة.
كانوا يتباهون بأسلحتهم الفتاكة، بطائراتهم الشبحية، ببوارجهم ذات الصواريخ التي لا تخطئ أهدافها، بحاملات طائراتهم الأكبر من مدننا، بجنودهم الذين يتصرفون وكأنهم في نزهة، برؤسائهم ووزرائهم الذين جاءوا إليهم في الصحراء فغرقوا في بحرهم بلا تكلف ولا مواكب تزعق من بعد أن أفسحوا الطريق للذين تموتون ليحيا!
كانوا ينظرون إلينا في عيوننا، مهما حاولنا أن نهربها منهم، يطاردوننا إلى غرف النوم، يقتحمون أحلامنا ليقولوا لنا – عبر الاهانات – إنهم قد هزمونا في الحرب التي لم يقيض لنا أن نخوضها.
وكنا… أين المفر من الوجع، وجراحك مفتوحة تنزف تاريخك وموروثاتك والمقدسات، ولغتك تفقد مفرداتها الجليلة الواحدة تلو الأخرى، حتى لتكاد تقتصر على ما يصفونك به من نعوت وأوصاف، وما يقررون لك ولبلادك من أسماء وتسميات وحدود؟!
هل أنت أنت؟!
الدنيا كلها غير الدنيا. لا شرق، ولا الشمال تخم للغرب، ولم يعد الأحمر لون النجم أو الراية، ولا عاد “اليانكي” عدو الشعوب التي تحبهم حيثما توجه بالشعار المدوي “عد إلى موطنك أيها الأميركي البشع”!!
هل مدريد التي نسيت العربية بعدما قتلها هي مدخلك إلى الدنيا التي ترطن الإنكليزية بلكنة أميركية مطعمة ببعض العبرية؟!
لا تشح بوجهك هرباً من الصورة التي طالما رفضت أن تتخيلها!
انظر، وتفرس في الملامح، واحفظ العلامات الفارقة في الوجوه. لا تدع كلمة تفلت منمك حاول أن تفهم. ارجأ حزنك إلى غد ودقق في معنى ما يجري لك ويأتيك وأنت مضطجع على المقعد المريح أو الخشن، لا فرق.
كفاك هرباً من كل أحد ومن كل شيء.
كفاك تلطياً وراء ما كان مما مضى وانقضى ولن يعود تلقائياً، بل يعود بك ومعك وبذراعك لا بقرارات الآخرين، حكاماً أو دولاً أو مجلس أمن أو أمماً متحدة.
كن أنت، مرة، تختلف الأحداث والنتائج.
كن فيكون. كن فيكون. كن فيكون.
أو يكون فلا تكون… إلا متفرجاً على جنازتك في التلفزيون.

Exit mobile version