طلال سلمان

على الطريق مهمة البطريرك وحروب المتضررين!

أمس، وبعد إشارتين واضحتين تماماً، ثبت للبنانيين، بالوجه الشرعي، إن المحاولة التي يبذلها البطريرك الماروني لابتداع مخرج “لائق” من مأزق شغور سدة الرئاسة، هي محاولة جادة وتستحق العناء.
وإذا كانت المهمة التي أناطها بالطبريرك بعض الداخل وبعض الخارج، تتسم بالسرية وتقتضي التكتم ريثما يُطمأن إلى أنها استولدت ظروف نجاحها الصعب، فإن الإشارتين جاءتا علنيتين (وبالألوان) وفجتين كأعظم ما تكون الفجاجة، وصريحتين في استهدافهما وأد “المهمة” الدقيقة في مهدها.
*الإشارة بل الضربة الأولى وجهها العماد ميشال عون الذي أعلنها حرباً شعواء ضد كل وأية محاولة لتغيير الوضع القائم، وبالتالي ضد مبدأ انتخاب رئيس جديد للجمهورية، طالما لم يكن هو وهو بالاسم الرئيس العتيد.
إنه “الرئيس” الآن، فكيف يجوز أن يعاد إلى الطابور مرشحاً بين المرشحين؟!
وفي تصوره فإن مجرد تحريك الموضوع المفتوح، أي انتخاب رئيس جديد، هو استفزاز شخصي له، على هذا فقد استنفر قواته وملكاته الخطابية ونزل إلى الميدان ممتطياً السيارة الرقم واحد، بالعلم على ساريتها القصيرة، وأعلن إنه الباقي ضد الكل في وجه الكل، يستوي في ذلك الاتفاق الأميركي – السوري، والمبادرة الفاتيكانية المعززة أميركياً (وأوروبياً)، وطابور الطامعين من المرشحين ومهمة البطريرك التوفيقية.
فالجنرال فوق الامتحانات والاختبارات، بل لقد أقام نفسه لجنة فاحصة فقررت إسقاط الفاحصين!
وهكذا وضع الجنرال المسترئس نفسه وجهاً لوجه مقابل البطريرك الماروني، متسائلاً في سره وفي العلن عن عدد الدبابات التي يملكها وكيل البابا في بكركي!
ولعل الجنرال بهذا قد أخرج نفسه من الحلبة، مفترضاً أن تجديد الحديث عن الاتفاق القديم، ولو تضمن ما يفيد باحتمال تعديله، إنما يعني على الفور استبعاده شخصياً.
فالجنرال الذي استمرا “الرئاسة” المؤقتة يريدها دائمة،
وهو يدرك أن ترئيسه المؤقت قد جعله طرفاً فلم يعد، بالتالي، مؤهلاً لأن يكون “الرئيس التوافقي” ولا بخاصة “رئيس الإجماع”،
هو، إذن، مجرد مختطف للرئاسة، أو مؤتمن عليها كما يصف نفسه، فلماذا لا يتزوج “رهينته” الجميلة؟!
إنهم يريدونها سليمة، إذن فليتزوجوها منه: وإلا تحول إلى شمشون الجبار فدمر الهيكل على رؤوس الجميع؟!
إنه ليس “محللاً” تنتهي مهمته مع الصباح. إنه الزوج “الشرعي” إذا سلموا بشروطه، أو “الزوج بالإكراه” إذا رفضوا، لكنه “الزوج” في جميع الحالات… حتى لو تسبب في قتل العروس وأهلها والمدعوين!
*الإشارة بل الضربة الثانية الموجهة إلى البطريرك الماروني ومهمته الدقيقة جاءت، أمس، من الحكم العراقي عبر ممثله في الشرقية القائم بالأعمال صبار الحديثي.
فلقد اختار هذا الدبلوماسي اللبق باب بكركي لكي يقول أفظ كلام يمكن أن يقال، واضعاً البطريرك في حرج ممض لا يعرف كيف يخرج منه، لأنه سيصاب بجروح مؤلمة كيفما تصرف،
وبغض النظر عن مدى الصحة في كلام “الصبار” الذي صار دبلوماسياً، فإن ما أعلنه يهدد مهمة البطريرك حتى من قبل أن تبدأ جدياً على طريق الألف ميل.
ففي بكركي يشكل الصمت الذي تغرق فيه البطريركية شرط وجود، ثم إن الهمس المسموع مقلق، فكيف يمثل إعلان الحرب الذي أطلقه منها ممثل الحكم العراقي على الطرف العربي الوحيد المؤهل والقادر والضرورية شراكته في استنباط المخرج من المأزق الخطير؟!
إنها ليست حرباً على سوريا، هذه التي يشنها من بكركي النظام العراقي،
إنها، بالأحرى، حرب ضد لبنان واللبنانيين،
فالمخرج الموعود مطلوب للبنان كمدخل لعلاج أزمته السياسية المستعصية، ونسفه قد يؤذي الدور السوري بهذه النسبة أو تلك، لكن نتائجه مدمرة على لبنان بالذات.
وجميل من الأخ الحديثي أن يبدي مثل هذا الاحترام الفائق للذين قتلوا من الشخصيات السياسية في لبنان، ولكن أين هم الأحياء من اللبنانيين، في تفكيره وفي وجدانه وفي خطابه الذي ينذر بتجديد الحرب بدافع النكاية أولاً واخيراً؟!
اما الحديث عن الاحتلال السوري لثمانين في المائة من الاراضي اللبنانية (في حين أشار سعادته إلى أن إسرائيل تحتل فقط عشرة في المائة لا غير!!) فهو إهانة مباشرة للبنانيين وليس لسوريا، وهو اتهام مرفوض للبنانيين في وطنيتهم.
وغني عن البيان إن اللبنانيين يعرفون بالضبط من هو عدوهم، ومن هو المحتل، وقد قاتلوه وهم ما زالوا يقاتلونه بالدم وبالسلاح وبالحجارة وبالزيت المغلي وبالصدور المكشوفة.
وغني عن البيان أيضاً إن السلام الذي أرسله النظام العراقي بواخر أثر بواخر قد “ضل” الطريق، في ما يبدو، فلم يصل إلى أولئك الذين يقاتلون العدو المحتل، بل وصل – مع الأسف – إلى الذين يقاتلون في صف هذا العدو بالذات!
وبوصلة اللبنانيين ومصدر قدرتهم على التمييز بين الأخ وبين العدو هي عروبتهم،
فعدو الأمة، عدو لبنان، هو بالضبط وفي الوقت نفسه هو عدو سوريا وهو أيضاً عدو العراق، كما هو عدو مصر – برغم كمب ديفيد – وعدو فلسطين وصولاً إلى المغرب واليمن السعيد،
وعدو اللبنانيين (العرب) ومحتل أرضهم والساعي لقهر إرادتهم هو بالتحديد ذلك الذي أرسل طائراته الحربية لتدمر مفاعل تموز النووي في بغداد، إذا كان قد نسى الأخ صبار الحديثي.
وهم يقاتلونه، وسيستمرون يقاتلونه، بوصفه عدو العرب جميعاً، وبينهم حتماً أخوتهم في العراق.
نعود إلى البطريرك ومهمته.
إن هاتين الإشارتين تفضحان، أولاً، هوية المتضررين من الشروع في الخروج من المأزق.
كذلك فهما تؤكد إن جدية المهمة واحتمالات نجاحها، فلا أحد يضرب في مهمة ميتة.
وما يتمناه اللبنانيون هو ألا ينخلع قلب البطريرك فيتردد أو يتراجع أو يعتكف بداعي الوجع أو الخوف، فمثل هذا التهويل أمر معروف وسياسة معتمدة في سياق الحرب الأهلية المفتوحة.
وإذا كنا نسلم جميعاً بأن التوجه نحو أي مشروع حل أو تسوية أو هدنة طويلة لا بد أن يصطدم بالمنتفعين بالحرب والمتاجرين بها والمرتبط دوام نفوذهم وهيمنتهم بدوامها، فإن هذا التسليم ينفي المفاجأة، وينفي أيضاً احتمال التقاعس أو الانكفاء بسبب هجمة المنتفعين المرشحين لأن يتحولوا مع النجاح، إلى متضررين.
إن البطريرك، في هذه اللحظة السياسية، هو المؤتمن على مصير الرئاسة، وربما على مصير الجمهورية والنظام الفريد، وليس الجنرال المسترئس،
وسوريا، في هذه اللحظة السياسية، هي المؤهلة للمساعدة على صياغة المخرج من المأزق، وليس الحكم العراقي،
وليس تجديد الحرب هو الطريق إلى المخرج الموعود،
فلا الجنرال هو قدر لبنان، ولا الحرب الأهلية هي قدر اللبنانيين المحتوم،
ولقد أوقعت سياسة التأزيم والمزايدة الطائفية والعض على الأصابع لبنان في أزمة مصير هي أخطر من مجموع نتائج الحرب الأهلية بسنواتها الطويلة.
وآن أن نستمع، مرة، إلى صوت العقل، وإلى صوت مصلحة اللبنانيين في وطنهم الجريح المهدد الآن بالتفتت والزوال،
فالتقسيم المستحيل هو وعد بحرب لا تنتهي تدمر الكل، إطلاقاً،
والوحدة فقط هي الوعد بالحياة…
وطريق الوحدة والاصلاح السياسي الضروري كمدخل لإجراء انتخابات الرئاسة، التي منها تنطلق المسيرة نحو التسوية المقبولة التي قد تشكل الأساس الثابت للحل المرتجى،
وعلى هذه الطريق يقف اللبنانيون مترقبين الخطوة التالية للبطريرك الماروني.
… ناهيك بالذين كلفوا البطريرك من دون الآخرين، بهذه المهمة الدقيقة والصعبة، والذين لن يسلموا بأن يتلقوا ضربة ثانية في لبنان ومنه، ثم يستأنفون سعيهم للحل وكان شيئاً لم يكن!
آن أن نريح العالم ونرتاح،
وبعد ذلك لا قبله، نتسلى باستذكار ما يقوله الجنرال الذي لن يصير نابليون، والدبلوماسي العراقي الذي لن يستطيع بشوك الصبار تبديل الجغرافيا ولا التاريخ!

Exit mobile version