طلال سلمان

على الطريق من ينقذ العراق من طوفان “الرافدين”؟!

“تسنى لكاتب هذه السطور أن يعرف العراق، بعض جغرافيته وبعض تاريخه، والعراقيين بتنوعهم الفريد، عن كثبز
“هذه محاولة لفهم ما يجري اليوم، في ضوء مشاهدات مر عليها بعض الزمن، لكن الأساسي منها ثابت لا يزول”.
كمزق من رئة نازفة، تتناثر أطراف العراق مع كل ريح حاملة معها اسم القاتل وملامحه القاسية.
مطر العراق أحمر، مطر الكويت أسود، وجه العراق بلا قسمات، والنجوم الثلاث في العلم المختلس كما الحكم غارت في شط العرب الذي يفتقد الآن جدارته باسمه.
الأهوار باتت مستنقعات راكدة، فلا “مشحوف” يخطر فيه كالبسمة، ولا النخيلات المزروعة في الماء لتبتني في قلبها أرضاً تستظل عاشقين أو حالمين بتغيير الكون بقوة السلاح انطلاقاً من حيث يبدأ – أو ينتهي – الكون.
الجراح هي حدود الخريطة الجديدة للبلد العتيق، وثناياها ظل الطاغية الخائف من شعبه ومن جيشه ومن مياه “الرافدين”. والأسماء، ذات العبق التاريخي المقيم تنزف معناها وأهلها: جلالا، سرسنك، أربيل، السليمانية، كركوك، ومن الجهة الأخرى البصرة، الناصرية، الكوت، العمارة، وبغداد أبي جعفر المنصور، ثم تكريت، سر من رأى (!!) باك سلمان، سنجار، الموصل الخ..
جلالا: والملا مصطفى البرازاني يهز بندقيته بالذراع التي لم تضعفها السبعون عاماً وهو يعلن “إنما نحمل السلاح لكي يبقى العراق وليس لكي ينفصل أكراده عن عربه…”.
أربيل: وجلال الطالباني يصحح لمن أخطأ “كاكا.. كرديتنا ليست بديلاً عن عراقيتنا، وليست تناقضاً أو انفصالاً عن واقعنا السياي العربي، مستحيل رسم الحدود بين الأكراد، في هذه الأرض، وبين العرب. كل ما لنا مشترك، وسيبقى مشتركاً”.
السليمانية: وعبد الخالق السمرائي، الآتي باسم اتفاق 11 آذار الذي وضع نهاية لإحدى جولات الحرب الأهلية يهتف بأعلى صوته “خائن من يمس بوحدة العراق، عربياً كان أم كردياً، لقد أخطأنا جميعاً، ونحن هنا لنؤكد عودتنا عن الخطأ، فتعالوا إلى كلمة سواء، أنتم عراقيون أكراد، كما نحو عرب أكراد، ليس لنا منه أكثر مما لكم، ولا يكون إلا بنا وبكم معاً”.
كركوك: وبعض الشيوخ فيها يستذكر أطماع الأتراك، وتآمر الإنكليز، واستقدام التركمان لإحاطة آبار النفط بزنار بشري من غير الأكراد ومن غير العرب، بحيث يسهل فصل “الثروة” عن أهلها وإلحاقها بمن يعطي منها نصيباً أكبر للمستعمر.
النجف: والسيد محسن الحكيم المقموع والمفروضة عليه الإقامة الجبرية، لا يخرج عن صمته إلا ليقول إن الخلاف مع الحكم الجائر هو خلاف سياسي وليس نزاعاً طائفياً أو مذهبياً… فمتى أعجز عن الجهر برأيه مات كمداً، ولم يعش من ذريته إلا نصفها وبفضل العناية الالهية وحدها!
وفي كل الجنوب وصولاً إلى جنان البصرة لا يختلف عليك إلا اللباسن فبدلاً من العمامة الكردية يطالعك “العقال” الغليظ، لكن القلب عراقي والساعد عراقي والطموح عراقي، والباقي من التاريخ.
كذلك في سنجار، يمتد الحوار مع “اليزيديين” حول منشأ “دينهم” وهل هم يعبدون الشيطان فعلاً، وأين يلتقون مع “الصابئة”، وأين يفترقون عن “المجوس” ، فلا يثورون إلا إذا أحسوا منك تشكيكاً بعراقيتهم.
فوق الدين والمذهب والعرق هو العراق…
أما العراق في ظل الطاغية فجهات الآن، وأديان ومذاهب وطوائف وعناصر. شماله غير الشرق، وشمال شرقه غير جنوبه، وغربه غير الوسط، وبغداد غير الكاظمية، والرصافة غير الكرخ، ومدينة الثورة غير الأعظمية الخ.. شيعته غير السنة، وأكراده غير عربه، والتركمان غير كلدانه، والآشوريون يصورون كأمة تامة ليس قبلها قبل ولا بعدها بعد.
لكن العراق لم يبدأ بصدام حسين، ولن ينتهي به، مع إن الطاغية يحاول أن يبقى حتى آخر عراقي.
ومهما بلغت جريمة صدام حسين من الفظاعة، فإن الشعب العراقي العريق قادر على تجاوز المحنة (الجديدة، وما أكثر المحن في تاريخ العراق!) وقادر على تجديد ذاته.
… ولكن ماذا في السياسة؟!
ليس أكثر من التفاصيل، والتفاصيل والمزيد من التفاصيل أقصر الطرق لطمس القضية.
على إن محنة العراق الفعلية تكمن في افتقاره إلى قيادة سياسية موحدة ومعافاة ولها صلة رحم بشعبها.
ولقد حاول صدام حسين ، على امتداد السنوات الثلاث والعشرين من تحكمه بمصير العراقيينن اجتثاث القيادات السياسية القائمة والمحتملة، داخل حزب البعث وخارجه، في صفوف العسكريين كما المدنيين، بين العرب كما بين الأكراد، وبين رجال الدين كما بين رجال الأحزاب والمنظمات الجماهيرية الخ.
… ومن تمكن من النجاة نفى نفسه إلى حيث لا تطاله يد الجلاد،
ربما لهذا يخوض شعب العراق معركته الآن بلا قيادة حاضرة ومؤهلة ولها جذورها وامتداداتها داخل البلاد.
وكما الجأ النظام الأردني الفدائي الفلسطيني ، قبل عشرين عاماً، إلى العدو الإسرائيلي، هكذا يدفع النظام العراقي شعبه المقهور بالهزيمة وبطلها إلى الاستنجاد بالمحتل الأميركين أو أقله إلى السكوت عنه، باعتباره أهون الشرين.
(للمناسبة: لصدام حسين دور لا ينسى في الوقائع السوداء لأيلول 1970 في الأردن… وبين الشهود على ذلك الدور اللواء حسن النقيب، أحد قادة المعارضة اليوم، والذي كان قائد القوة العراقية التي أوفدت باسم نجدة الفدائيين ثم استخدمت في نقيض ما أتت من أجله على طول الخط).
في أي حال فليس بين ما يقوم به صدام حسين وما تنفذه قوات الاحتلال الأميركي أي تناقض.
بشيء من التدقيق يتبين التكامل بين المهمتين: فالطاغية يطارد شعبه المنتفض رفضاً للهزيمة وبطلها، والمحتل الأميركي يسهل عليه القضاء على الانتفاضة بتسهيل حركة قطعاته الموالية (وبالذات الحرس الجمهوري) في الجنوب والشمال، قاصراً العقوبة على منعه من استخدام سلاح الجو ولاسباب تتصل بأمن المحتل وليس لإشفاقه على الضحايا المحتملين لغارات القتل الجماعي.
كلاهما يعاون الآخر للإجهار على العراقن شعباً وجيشاً ومؤسسات وموارد وإمكانات لشدما يحتاجها عراق ما بعد صدام حسين للبقاء على قيد الحياة، ومن ثم لإعادة بناء ذاته.
وخريطة الجراح العراقية تمتد الآن لتغطي كامل مساحة ما بين النهرين،
وكامل تاريخ أرض الحضارات التي أعطت العالم القديم فجره ومسرى تقدمه.
“… لو تسمحون أو تأمرون برفع الجثث من شوارع كربلاء المدمرة”.
يقول آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي لصدام حسين في المقابلة التي أرادها دليل براءة فكانت دليل إثبات على إن المشكلة مع “الشعب” لا مع “الطائفة”.
“… سمعت إنهم أخذوا بعض سياراتك. هل سرقوا لك سيارتين”؟!
يقول صدام حسين قافزاً من فوق “القضية” ليحصر الأمر بمسالة شخصية!
وجراح العراق في سمعته وفي كرامة شعبه أخطر من الجراح التي أصابته في عاصمته وسائر مدنه وأنحائه وأهله المنكوبين.
إنه يقدم الآن للعالم، وعبر أجهزة الأعلام الأميركية أساساً، وكأنه “نتف” و”بواق” وخلطة متنافرة من البشر الذين لا يجمعهم رابط… إلا صدام حسين!
لقد تحول عراق “رابع قوة عسكرية في العالم”، عراق “المزدوج الكيماوي” و”المدفع الأسطوري” و”السلاح البيولوجي” و”القدرة النووية”، فجأة، إلى كيان هزيل مصطنع، لا شعب فيه بل مجموعات بشرية غير متجانسة توحدها قوة القهر التي يقودها صدام حسين.
ليس في العراق، اليوم، حسب الأعلام الأميركي، شعب ثائر، بمختلف فئاته وأعراقه، أديانه وطوائفه، بل قبائل كردية اضطهدها العرب طويلاً وتريد الآن إقامة دولتها الحرة المستقلة (!!)، وأتباع متعصبون من الشيعة لبعض من وصفوا طويلاً بإبطال الإرهاب الدولي يريدون التحرر من اضطهاد الأقلية السنية التي تحتكر الحكم منذ أن كان للعراق حكمه الوطني!!
وحين تعلن دمشق إن لديها تعهدات من أطراف المعارضة، وكذلك من الدولتين الجارتين الكبريين تركيا وإيران، بتجنب الأضرار بوحدة العراق الوطنية، فإنها تقدم إسهامها القومي الجدي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا القطر العربي المبتلى بحاكمه وبالنتائج المدمرة لسياسته الحمقاء.
فدمشق تعرف تماماً، كما يعرف سائر العربن إن شعب العراق ليس أشتاتاً لا يربط بينها رابط غير المصادفة وأهواء الدول.
العراق مثله مثل أي بلد آخر يتكون من عناصر عدة، لكنها عناصر مؤتلفة ومتكاملة، صهرتها وحدة الارتباط بالأرض والتاريخ والمصالح والعواطف والمطامح والوجدان وقبل ذلك كله ومعه وبعده: وحدة المصير.
فلا الكردي وافدن ولا العربي طارئ ، لا الشيعي يستغني بمذهبيته عن وطنيته، ولا السني مستكف بمذهبيته وكأنها الهوية والانتماء القومي.
وليس المهم أن يقال إن صدام حسين قد غامر في الكويت فخسر العراق،
المهم أن يبادر من هو قادر ومؤهل إلى إنقاذ العراق، أو ما تبقى منه، من هذا الطاغية الذي يطبق عملياً شعار “أنا ومن بعدي الطوفان”!
… والعراق شأن محلي لكل قطر عربي.
وبقدر ما أصاب هذه الأقطار من الضرر نتيجة حرب الطاغية سيصيبها المزيد من الضرر إذا هي لم تبادر، وبأقصى ما تملك من قوة، لوقف الطوفان الدموي الذي يتهاطل الآن من جراح العراقيين مطراً أحمر.
… وللطوفان الجديد “رافدان” أيضاً، أحدهما بعلم متعدد الخطوط كثير النجوم!

Exit mobile version