كيف السبيل إلى الخروج من الحلقة المفرغة:
1 – تقدم الدولة “رشى” علنية وسخية إلى المتمولين، المحليين منهم والعرب والأجانب، بأمل أن يقدم هؤلاء أو بعضهم فيجيئوا ببعض أموالهم لاستثمارها في لبنان.
2 – يتهرب المتمولون المتحدرون من أصل لبناني (إذ أن غالبيتهم باتوا يحملون جنسيات أخرى)، متذرعين بأن الوضع ما زال غير مستقر، أو أنه لا يطمئن، فيمت ن ع ون عن توظيف بعض أموالهم في “الداخل”، من دون أن يمنعهم ذلك من قنص الفرص المتاحة للحصول على بعض الصفقات، وبوصفهم وكلاء لشركات أو مؤسسات أجنبية، وهكذا يجنون أرباحاً صافية وبغير جهد أو استثمار، ويأخذون من البلاد بدل أن يعطوها.
3 – ويتذرع المستثمرون العرب باستنكاف أصحاب الرساميل من اللبنانيين ويعتبرون أن “أشقاءهم” اللبنانيين الأولى بأن يكونوا المبادرين و”الطليعة”، فإذا ما بادر اللبناني شجع أخاه العربي فأقبل، وإلا تحولت الدعوة إلى كمين، فكأننا ندعو المتمولين العرب “لنقنصهم” أو “لنستغفلهم” فنطلب منهم ما نمتنع عنه ونطالبهم بموجبات “أخوتهم” ونتملص من موجبات “وطنيتنا”.
4 – في ظل هذا الواقع تتصرف الحكومة وكأن دورة الإنتاج قد انطلقت أو أن النهوض الاقتصادي العتيد قد تم فعلاً، فتضاعف وبنسب غير معقولة بعض الرسوم والضرائب وأسعار الخدمات العامة (الكهرباء والهاتف والبريد) مما يشكل عبئاً إضافياً على المواطن الطبيعي، أي ذلك الذي لم يحظ بصفقة تدر عليه أموالاً طائلة بغير جهد، والذي لا يملك أرصدة في مصارف الخارج، والذي تمسك بأرضه فلم يهجرها ولم يغدر بها طلباً لجنسية أخرى “محترمة”.
أي أن المواطن الطبيعي لا يتلقى إلا العقوبات والتضييق على خبزه اليومي!
*بذريعة أن ثمة نسبة كبرى من “سارقي” التيار والمتنعمين بضياء الكهرباء بغير اشتراك وبالتالي من دون أن يدفعوا، يفرض على المواطن الطبيعي أن يدفع بدل الاشتراكي (الساعة) أضعاف دخله، ثم أن يدفع فاتورة ثقيلة للاستهلاك لأن كلفة إنتاج الكهرباء عالية، ولأن أولئك “العصاة” يحتمون بعباءة النافذين، ومعظمهم من أهل السلطة، فلا يدفعون فواتيرهم ولا بد أن تعوّض ممن لا تغطيهم تلك العباءة السحرية!
*وبذريعة أن المساعدات لم تأت، وإن المال اللبناني المهاجر (!!) لم يعد إلى الوطن – الأم، وإن المال العربي ينتظر “شقيقه” اللبناني وهو لن يسبقه ولن يتقدم عليه بأي حال، تندفع الحكومة في الطريق الوحيدة المفتوحة أمامها، أي القروض، بكل أعبائها ومخاطرها المحتملة في بلد يكاد لا ينتج الآن، وليس متيسراً انطلاقه في ميدان الإنتاج في القريب العاجل.
*وبذريعة أن المستثمرين يريدون مجالات مغرية بأرباحها وبسرعة تحقيق تلك الأرباح، يقتصر أمر الاستثمار على مجال وحيد هو العقار، الذي يتحول تدريجياً إلى أداة مدمرة للمضاربة، أين منها القدرة التدميرية للمضاربة بالدولار التي امتصت عافية النقد الوطني.
وهكذا ينشأ وضع غريب ولا نظنه مقصوداً أو ملحوظاً في خطط الحكومة التنموية، أو أنه مقبول في كل الحالات، إذا ما نظر إلى عواقبه الاجتماعية قبل الاقتصادية: تصبح أرض لبنان الضيقة والمحدودة هي السلعة الوحيدة الرائجة، والمعروضة للبيع على كل قادرعلى الشراء.
ومع الترحيب بأي مال يأتي للاستثمار، فلا بد من الاستدراك والتحفظ الواضع: فلبنان ليس للبيع، أو يجب ألا يكون معروضاً في السوق كأرض فضاء!
والكلام لا يعني المستثمر غير اللبناني، فالأغنياء أخوة كما الفقراء أخوة، و”الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن”، كما تعلمنا من الإمام علي ابن أبي طالب.
إن المضاربة بالعقار تستولد مجموعة من المخاطر بل الكوارث الاجتماعية الجديدة، التي لا بد أن تنعكس بالنتيجة على الوضع الاقتصادي العام.
فمع ارتفاع أسعار العقار، بالمضاربة، سيتعذر على اللبناني الطبيعي أن يشتري ما يكفيه لبناء مسكن، خصوصاً في ظل الدخل المنخفض بل المتردي الذي يناله الآن لقاء جهده.
كذلك سيتعذر على هذا المواطن الطبيعي أن يشتري شقة في عمارة.
بل لسوف يتعذر عليه أن يستأجر، مجرد إيجار، شقة ولو في حي السلم.
هذا يعني أن شباب لبنان لن يتمكنوا من الزواج، وإن الاسر التي تتزايد أعدادها باستمرار ستتكدس في بيوت غير لائقة وضمن شروط غير إنسانية، على الطريقة الجزائرية أو المصرية، حيث ينام أفراد الأسرة بالتناوب لعدم وجود أمكنة تكفي لتمددهم الواحد إلى جانب الآخر.
ويمكن الاستطراد في تعداد العواقب الاجتماعية الوخيمة إلى ما لا نهاية، خصوصاً إذا ما تذكرنا أن الأرياف عادت تفرغ سكانها الفقراء والذين لا يجدون في الزراعة ما يقيم أودهم، ويفتقرون إلى الحد الأدنى من الخدمات العامة، في “حزام البؤس” من حول العاصمة المهدمة القلب.
والسؤال مشروع عما إذا كانت الحكومة تملك أن نوع من الإحصائيات عن عدد أبناء الأرياف الذين هجروا قراهم التي ألجأتهم إليها الحرب اضطراراً، وعادوا مجدداً ليزدحموا في حزام البؤسص، وسط الخراب والدمار ورائحة الموت والذكريات السوداء.
إنها حلقة مقفلة، والدوران فيها لا يستدر غير مزيد من اليأس.
فكيف السبيل إلى كسر هذه الحلقة الجهنمية؟
نتمنى أن يكون لدى أي مسؤول في البلاد الشجاعة لمواجهة هذه الحقيقة المرة.
وعسى أن يستذكر النواب في جلستهم “الاستثنائية” اليوم مثل هذه الأمور التفصيلية المزعجة وهم يناقشون الحكومة في استراتيجياتها العظمى!