طلال سلمان

على الطريق من يساعد الحريري؟

ليس الرئيس الياس الهراوي وحيداً في الاعتقاد أن “عهده” إنما يبدأ الآن، – وبالمصادفة البحتة – مع لحظة نجاحه في “اختيار” رفيق الحريري رئيساً “لأول حكومة” في “النصف الثاني من الولاية” وهو يعدل الولاية كلها وأكثر!
ثمة قوى عربية ودولية تحب أن تعتقدن الآن، إن مجيء الحريري هو إعلان بنهاية مرحلة أو حقبة، وبداية مرحلة جديدة طابعها الأساسي انحسار “التفرد” السوري والتسليم بمبدأ المشاركة، مع ترك تحديد النسب للأيام الآتية وهي حبلى بالتطورات، محلياً وإقليمياً ودولياً.
ولقد كان الأميركيون الأسرع في التعبير عن مثل هذا المضمون، عبر ترحيبهم الحار، لدرجة لافتة، باختيار الحريري، حتى إن بعض المتفقهين في تفسير الغاز السياسة الأميركية أحبوا أن يروا “صفقة متكافئة” في ما جرى مؤخراً: فإذا كانت الانتخابات النيابية “قراراً سورياً” وهي قد وفرت الضمانة التي تريدها دمشق لعلاقاتها المميزة مع لبنان، فإن “الحكومة” يجب أن توفر الضمانة التي تطلبها واشنطن وتعتبرها بين عوامل الاستقرار لعلاقات “حسن الجوار” مع دمشق في بيروت.
وطبيعي أن تبقى الرياض صامتة، فالواقعة أقوى من أي كلام، ثم إن الحذر وعدم التبني المطلق والتحفظ (حتى لا نقول الشك والارتياب) من بديهيات الطبيعة البدوية، ثم إنه لا موجب لأي كلام بعدما صدر عن واشنطن، وهو لا يحتمل المزيد.
يبقى الموقف التحريضي الخبيث الذي صدر عن إسرائيل بلسان منسق أنشطة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان أوري لوبراني، وهو يستهدف “إحراق” الحريري، والتشكيك – بداية – بمتانة العلاقة التي تربطه بدمشق، إضافة إلى دق إسفين بينه وبين القوى القائلة بالمقاومة سبيلاً إلى التحرير، وأخيراً إلزامه بموقف دفاعي ضعيف، ومنذ يومه الأول في الحكم.
لكأن الجميع يريد تصويره وكأنه “الرجل الذي لا أعداء له”، أو “الرجل المقبول من الجميع” على عداء بعضهم للبعض الآخر، وتناقض المصالح في ما بين المؤيدين المتنافرين، والرجل الذي لا أعداء له هو ذلك الذي لا موقف له،
.. فكيف والمرحلة تفرض تحديداً قاطعاً في وضوحه بين “من هو مع” و”من هو ضد” سيما وإنها ستطرح خياراً قاسياً لا بد معه من الجواب بلا أو نعم،
أما في الداخل فقد تكفلت أوساط معينة بأن تطرح الحريري في صورة “الساحر” الذي يكفي اسمه وسيلة لاجتراح المعجزات: قبل أن يكلف اندحر الدولار الجبار وخر صريعاً أمام ليرة لا تشتري شيئاً ولا يهتم بحفظها إلا هواة جمع العملات القديمة وتجار خردوات الآثار وبدع الأقدمين… فكيف بعد التشكيل؟!
هذا مع العلم إن آخر مواطن لبناني يعرف – يقيناُ – إن الذي رفع سعر صرف الدولار هو هو الذي يخفضه الآن، وبطريقة دماراتيكية وهكذا يتحقق ربحه مضاعفاً للمرة الثانية، في حين تتفاقم خسارة أصحاب الودائع الصغيرة الذين سيكونون ضحية… للمرة الألف.
أما في السياسة فيخسر من لا يملك دولارات، لأنه سيرسب في الامتحان الأقسى والمكشوف.
على أن الجانب السياسي يبقى هو الأخطر، ويفترض بشخص مؤهل ومعزز بالمستشارين الكثر وبمصادر المعلومات المتعددة، مثل رفيق الحريري، أن يقدر أغراض المروجين والمسوقين الذين “يتبرعون” الآن بتصويره بما يتجاوز حقيقته وقدراته، على أهميتها.
ولسوف يحاصر الحريري بالاتهام، في محاولة لإحراجه مع أصدقائه الكبار في دمشق، بذريعة توكيد “استقلاليته”.
كذلك فلسوف يطارد الحريري “بسعوديته” فإن هو أكدها كان كمن ينقص أو ينتقص من “لبنانيته”، وإن هو خفف من أثرها على مسلكه وخياره السياسي كان كمن يتنكر لأصحاب الفضل عليه،
ستتوالى الهجمات “الودية” على الحريري من على يمينه، ومن على يساره، من خلفه ومن قدامه، حتى يرتبك فيعجز، أو يندفع بأسرع مما يجب فيخطئ أو يتهور فينتحر:
*سيطالب بتحقيق مصالحة مستحيلة مع من يريدون رأس الحكم في لبنان، ورأس النظام في سوريا، ورأس الرئيس الأميركي، في آن، فإن هو عجز عن عقدها – وهذا محتم طالما أن الطرف الآخر فيها مهووسون أمثال ميشال عون وريمون اده – كان ذلك مجالاً للطعن في قدرته على تحقيق الوحدة الوطنية، وصنف رمزاً لتزايد “الهيمنة الإسلامية” على الحكم في لبنان، خصوصاً وإن وصوله قد تزامن مع وصول “المسلم القوي الآخر” نبيه بري إلى رئاسة المجلس النيابي،
وبين الهمسات المسمومة التي تشيع الآن في ما كان يسمى “المنطقة الشرقية” إن فهداً بن عبد العزيز قد أوفد الحريري إلى بيروت مزوداً بأمر ملكي محدد: عليك أن تؤسلم الشعب أو الأرض في لبنان.
*وسيطالب بإعادة العصر الذهبي للبنان الذي كان، والذي لا يمكن أن يعود، أقله في المدى المنظور، فيرجع الدولار بليرتين، وترجع بيروت مطار العرب ومرفأهم، فندقهم ومطبعتهم ومستشفاهم وعلبة الليل المحققة لكل الرغبات.
وفي حين سيطالب بتبليط البحر، فهو متهم بأنه سيجني الأرباح الطائلة من مشروع الوسط التجاري، حتى من قبل أن تضرب شركاته معولاً في أرضه، أو أن يباع سهم واحد من أسهم شركته أو شركاته المنفذة (وهي موضوع شبهة من قبل أن تشهر أسماؤها)… إن الحريري، وعلى عكس ما يفترض عامة الناس، بحاجة إلى مساعدة،
وأبسط أنواع المساعدة ألا يغرق بهذا الطوفان من النفاق، وألا يطالب بما يفوق طاقة الدول الكبرى وإمكاناتها الهائلة، فكيف بالأفراد مهما خلصت نواياهم ومهما بلغ استعدادهم للعطاء.
في كل لحظة سيكون الحريري موضع امتحان: سياسياً واقتصادياً، وشخصياً وفي علاقاته المتعددة المستويات والأطراف.
لقد تورط الحريري، فجاء “ليخدم عسكريته” في الموقع الذي أراد: على رأس حكومة ما بعد الحرب في لبنان،
ولسوف يكون على الحريري أن يقاتل حربه الخاصة وعلى جبهات عدة في الوقت نفسه. وبين مآسيه أن ربح بعض الجولات فيها قد يكون من مقدمات الهزيمة فيها بينما المنافقون يطلقون الرصاص ويتحلقون حوله لتهنتئه بالنصر المبين.
ولن يكون فشل الحريري، لا سمح الله، خبراً ساراً بالنسبة للبنانيين، كائنة ما كانت المبررات والأعذار كمثل تخلي الأصدقاء أو افتقاد الناصحين أو الغرق في الرمال المتحركة، وأول شروط النجاح أن يظل الحريري “على الأرض”، وألا يرى البلاد من نافذة طائرة تعبر به الأجواء وهو ينتقل بين “عواصم القرار”!..
فالكلمة الأخيرة، اليوم كما بالأمس، وغداً كما اليوم، للجغرافيا.
… وأما “النفاق” فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيبقى في الأرض.
الارض. الأرض. الأرض. ذلك هو الامتحان، وهي مصدر الشهادة بالنجاح.

Exit mobile version