طلال سلمان

على الطريق من يرمي بماء النار وجه الأميرة؟!

.. أما وقد فرغنا من توصيف جريمة الذين يحاولون اغتيال “الأميرة” بدافع الحقد وتدمير كل ما هو مضيء ومشع في ما تبقى من لبنان الذي كان، فلنلتفت إلى الداخل لمحاسبة أولئك الذين يرمون بماء النار وجه “الأميرة”، تحت ستار الحب والحرص والتعصب وتحمل المسؤولية عن بيروت وأهلها وكل ما ترمز إليه في الوجدان الوطني والقومي.
ولكي يكون الحديث صريحاً ومباشراً فلا بد من القول بداية:
لا لبنان بلا بيروت، وبلا بيروت على الصورة التي عرفنا وأحببنا وفاخرنا بها العالمين.. أي بيروت الجامعة والمعهد والمكتبة، بيروت المستشفى ودار الصحة والطبيب، بيروت الكتاب والمطبعة وصحيفة الصباح، بيروت الوردة والأغنية والدولتشي فيتا، بيروت الأديان كلها، الطوائف كلها، المذاهب كلها، الأحزاب كلها، الآراء كلها، الأفكار كلها والمنتدى، بيروت المصارف والتجارة والمعبر والجسر وهمزة الوصل والمترجم والوسيط وبائع الأحلام مع أطواق الفل.
وبهذا المعنى فالمسيء إلى بيروت وصورتها، إلى روحها التي اتسعت للناس جميعاً وأطلقت مبادراتهم جميعاً وفتحت أبواب المنافسة والنجاح أمامهم جميعاً، إنما يسيء إلى قضيته ذاتها، قضية حلم الوطن، وحق الإنسان في أن يكون مواطناً في هذا الوطن العتيد.
كانت بيروت توفر عنصر الطمأنينة إلى سلامة اليقين: طالما إننا نجحنا في اجتراح هذه المدينة الباهرة، المؤكدة لحقيقة وحدتنا، المعززة لانتمائنا القومي والمستمدة منه وهجها والألق، إذن فباستطاعتنا أن نبني وطناً يتسع للجميع، بأحلامهم وطموحاتهم وآمالهم العراض، ويعطي لكل منهم فرصة تحقيق ذاته، وينهي وإلى الأبد ذلك الجدل العقيم والسقيم حول عروبة لبنان وهويته فالعروبة هي التي صنعت بيروت وقيمتها مستمدة من كونها قارورة طيب العرب ومنارتهم ومدللتهم ومعشوقتهم المشتهاة.
ومن الواجب اليوم، وأكثر من أي يوم سابق، أن نحمي ما تبقى من “معجزة” بيروت،
فإذا كانت الحرب قد أنهكت بيروت فخفت ضياؤها وأصاب وردتها الذبول وعشش السهوم في عينيها وتغضن الجبين بليل الهم الطويل. فإن أبسط واجباتنا أن نساعدها في محنتها فلا نحملها مزيداً من الهموم والمآسي التي يمكن تجنبها، وعلينا بأي حال تجنبها ومهما كلف الأمر.
لسنا من اتخذ قرار الحرب، الحرب على الناس وعلى العاصمة العريقة وعلى النوارة وعلى الجبل،
ولكننا نستطيع أن نتخذ القرار الكبير الآخر: أن نواجه الحرب فنهزم أهدافها الخبيثة والمجرمين الذين أشعلوها وما يزالون ينفخون في نارها ليبيدونا بشراً ومدناً وقرى وتراثاً حضارياً وإرادة مفعمة بحب الحياة والإيمان بالوطن والإنسان.
وأول شروط مواجهة الحرب أن نحمي جبهتنا الداخلية، وأن نرص صفوفنا فلا يخترقها متآمر أو مخرب، وأن نتدرع بالحب حتى لا تجتاحنا ريح السموم التي يضخها المستنقع الطائفي.
ولنقلها صراحة: إنهم يريدون إحراق بيروت، ولكنهم يعملون لكي نوفر عليهم الجهد والعناء فنتولى إحراقها بأيدينا.
فلا مجال لأن تقوم لـ “الغيتو” قائمة إلا إذا انهارت بيروت والتهمتها الفوضى ونخرتها الطائفيات والمذهبيات والعشائر المسلحة التي ترى في الفوضى فرصة ذهبية لاستباحة المدينة وتقاسم المغانم والأسلاب فيها، تارة باسم بيروت وتارة باسم حماية بيروت!
والمدخل إلى الانهيار والفوضى المدمرة هو ضرب الأمن في بيروت، أمن المدينة وأمن أهلها الصامدين.
والأمن، كما نفهمه وكما نعنيه، يمتد من السياسة إلى الاقتصاد إلى الحرية الشخصية إلى السلامة الشخصية.
فتوفير الضمانات لاستمرار المناخ الديموقراطي وحق التعبير عن الرأي وحق التمايز عن الآخرين في الفكر والمعتقد، ليس فقط علامة من علامات التحضر والرقي، بل هو أصلاً شرط حياة لمدينة بيروت وفيها،
وتوفير الرعاية لدوام نشاط المؤسسات الاقتصادية، والشركات والمصارف والبيوتات التجارية وصولاً إلى أصغر دكانت، وإلى “البسطات” وتنظيمها، شرط حياة لبيروت وللذين يعيشون فيها فكيف يعيش الناس وكيف يصمدون إن ضاقت أو انعدمت أمامهم فرص الرزق وعجزوا عن تأمين خبزهم اليومي والحليب لأطفالهم؟!
وشعور المواطن بالأمان وهو يمارس حريته الشخصية، ويعيش حياته كما يحب أن يعيشها، حق مقدس ويبقى مقدساً في زمن الحرب. فخلا ما يصيب هذا المواطن نتيجة للحرب وبسببها، وهو لا يقع تحت سيطرة أحد، فإنه غير مستعد لأن يتحمل فوق تلك الأهوال والمصائب أي تضييق أو تعنت أو حجر على حريته.
وبصراحة أكثر: ليس لأحد حق الولاية على أحد، والحساب للديان وفي يوم الدين… من صام فليصم، ومن أفطر فليفطر، من سكر فليسكر، ومن صلى وتعبد فله أجره والثواب، من كان مصدر رزقه الملهى فلندع له باب الرزق مفتوحاً، ومن كان صاحب حرفة فليأكل من حرفته كائنة ما كانت طالما إنها لا تؤذي الناس.
ثم… لماذا لا نخفف عن الناس، وكل بقدر ما يعتبر نفسه مسؤولاً عن البلد والناس؟!
لماذا لا نجعل الإذاعة أكثر فرحاً، أكثر بهجة، أكثر إيناساً؟! لماذا لا نختار من الأغاني الأجمل، ومن البرامج الأذكى والأمتع والأهدأ؟!
ولماذا لا نفيد من محططة التلفزيون لنستخدمها في الترفيه عن الناس وتسليتهم وتثقيفهم ؟! لماذا لا نخرج من الأرشيف أفضل ما فيه؟! لماذا لا نقدم من البرامج الأكثر إراحة للأعصاب؟ لماذا لا نخفف من التصريحات المعادة والمكررة والخطابات البليدة وطق الحنك اليومي المرهق؟!
لماذا لا نغني حياة الناس بمزيد من الحب والجمال؟! لماذا نقدم الصبار طالما توفر الياسمين؟! لماذا الافتراض بأن التعبير عن الوطنية لا يكون إلا بالجعير، والتعبير عن القضية لا يكون إلا بالمواعظ السمجة وشقشقة اللسان بالألفاظ الطنانة؟!
من قال إن الورد الجوري وزهر الليمون والعنبر وشجرة الدفلى، والحبق لا يذكر بالجنوب والبقاع الغربي وراشيا وإقليم الخروب أكثر بكثير من النشاز الشعري والموسيقى، المفبرك تحت اسم “أغاني المناسبات” والمواسم، وهو في أي حال أرحم من النشاز النثري المخصص لمثل هذه المواسم والمناسبات؟!
ولماذا نترك المدينة منكوشة الشعر مهدلة الوجنتين زرية الثياب والمنظر؟!
لماذا نهين “الأميرة” ونذلها في حين تحتضننا وتدللنا وتهدهدنا، كما أمنا، حتى ننام قريري العين، وتبقى مسهدة واجفة القلب تفاجئها رشقات الرصاص مرة بسبب تشييع شهيد وأخرى بسبب الاستعجال لإيصال جريح، ومرة ثالثة ابتهاجاً بشروق الشمس، ورابعة كيدا بالجيران الساهرين الخ؟!
لماذا لا ننظم أسبوع نظافة فنرفع كل ما يشوه ثوب “الأميرة” ويسيء إلى صورتها ويأتينا بالمرض؟! لماذا لا نضبط عمال النظافة ونساعدهم حتى لا يبقى عقب سيكارة في آخر زاروب مسكر، ولا تظل لطخة على جدار، وتعود أصص الزهور إلى النوافذ وتتسلق العربيشات لترسم بالخضرة والزهر أبواب بيوتنا والعمارات؟!
لماذا لا يكون كل منا خفيراً، فنترك الأمن اليومي لرجل الأمن ونعينه على أنفسنا، على مباذلنا والشبق الكامن في نفوسنا إلى السيطرة ونزعتنا إلى السلطة التي تكون في مثل أحوالنا تسلطاً؟!
إن بيروت مديننتا جميعاً، أمنا جميعاً، والمركب الذي يحملنا جميعاً فإن غرق أو اختل توازنه فسنكون جميعاً بين الضحايا.
والفوضى مبتغى اللص والمرتكب والمتآمر، وهي أقصر طريق آمنة وسالكة أمام الذين يريدون شراً ببيروت والذين يحاولون – منذ سنوات – أن يغتالوها.
والتساهل مع “الحوادث الصغيرة” و”التعديات البسيطة” و”التجاوزات الفردية” لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع وانهيار قاعدة الصمود.
إن قوى كثيرة وقادرة تتآمر على بيروت فلنتحد لمواجهتها ودرء خطرها عنا، والاتحاد يكون بالتنافس على حب بيروت وفي حبها، وليس على إظهار إنني أحبها أكثر منك أو نكاية بك أو العكس.
وإذا كان صحيحاً القول بأن لا لبنان بلا جنوب، فمثله صحة القول إن لا لبنان بلا بيروت، ولا جنوب بلا بيروت.
ومعركة حماية بيروت، أميرة الصمود وساحة العمل الوطني والنضال القومي، ليست إلا قتالاً على خط الدفاع الأول عن الجنوب والبقاع الغربي وراشيا وبعض الجبل وصولاً إلى الباروك.
بحماية بيروت وتأمين أهلها والحفاظ على صورتها الأصلية نحمي الهدف النبيل لنضالنا: تحرير الأرض والإنسان، من الاحتلال والطائفية،
بحماية بيروت نحمي حلم الوطن،
وحماية بيروت تبدأ بإشعار الناس جميعاً بأنهم شركاء في المسؤولية عنها، وبأن لهم دورهم في هذه المهمة النضالية المقدسة، وقبل: بإشعارهم إنها ما تزال مدينتهم وعاصمتهم ومهجع أحلامهم ومرتع ذكرياتهم الحميمة وايامهم الحلوة، خميلة ساعات العشق والصبابة، وقاعة المكتبة للدارس ومصدر الرزق لكل باذل عرقه من أجل الرزق الحلال.
فاحموا بيروت. احموا أميرتكم ممن يحاول أن يلقي بماء النار على وجهها، فوجوهكم هي التي ستحترق وتشوه.. وجوهنا جميعاً.
احموها بإطار سياسي ينظم الناس ويجمع صفوفهم، وببرنامج وطني يوضح خط السير ويحدد الأهداف والوسائل، وبهيئات شعبية تتولى أمور حياتهم اليومية فلا تظل مشكلة بلا حل، ولا تدور الشكوى على الأبواب فلا تجد من يفتح لها.
إن الطائفيين وتجار المذاهب وأصحاب الدكاكين السياسية المستحدثة والمفتوحة على عجل والمتآمرين على بيروت وسائر أنحاء لبنان يقنصون قدرتنا على الصمود يومياً ويقصفونها بالدعايات المسمومة كما بالتعديات كما بالتصرفات غير المسؤولة لاستدراج ردود فعل غاضبة تستولد الأحقاد والكراهية فإذا نحن في غابة لا يدخلها نور الشمس ولا تنعش جنباتها نسمة هواء ندي ولا تسمع في أرجائها زقزقة حسون أو تغريدة شحرور أو كرجة حجل.
إنهم يزيدون على قهر الحصار قهر حصار داخلي مهين ومميت،
فلنقاوم الموت اختناقاً، ليقترب واحدنا من الآخر من أجل حماية حياتنا جميعاً، والمدخل الطبيعي حماية المناخ الصحي في مدينتنا. ولنشهر سيف التنظيم وضمان الأمن والأمان في وجه الجناة والخاطئين،
ولنشهر مع السيف الأغنية والحب والوردة وعشق الحياة،
فهذا ما أعطتنا الأميرة، وهذا ما تنتظره منا، فتنصرنا وننصرها ونحرر الأرض والإنسان وننهي زمن الحرب، ونستقبل نجمة الصبح الجنوبية.

Exit mobile version